معاريف
بعد إحدى المظاهرات في الايام الاخيرة امام منزل رئيس الوزراء في القدس، والتي رفعت فيها اعلام سوداء، حمراء بل و”علم فلسطين” – يجدر الاشارة الى انه منذ اشهر عديدة يشير المراسلون على اختلاف اصنافهم الى أنه في المظاهرات يظهر حاملو اعلام سود. لسبب ما لم يفكر الصحفيون بفحص الظاهرة، والاشارة الى من هم ومن أين جاؤوا اولئك الذين يرفعون الاعلام السوداء، ولماذا اختاروا لأنفسهم بالذات مثل هذا العلم الذي يتميز لونه في الثقافة الاوروبية على نحو خاص بطقوس العزاء وكرمز للموت.
مؤخرا فقط بدؤوا يربطون بين الاعلام السود وبين الجناح الفوضوي الذي في المظاهرات، والآن ايضا لم يشيروا بعد الى انه توجد صلة مباشرة بينه وبين الفوضوية كحركة سياسية تسعى لإلغاء كل حكم وتؤيد إلغاء الدولة القومية ومؤسساتها. صحيح أن هذه الحركة اختفت عن الوعي العام بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن يخيل أنها عادت الآن لأن تظهر عندنا بالذات. من اين جاءت؟
الجواب قد يكون يتوفر في موسوعة العلوم الاجتماعية (اصدار مكتبة هبوعليم) والذي يشير الى ان “تأثيرا معينا ما يزال معروفا في عصرنا للفوضوية في بلدان اميركا اللاتينية. لعله من هناك جاء فوضويونا؟ واذا كان لا – فمن أين؟ فمن حق الجمهور أن يعرف، ولماذا لا تكبد وسائل الاعلام في هذه الحالة عناء توفير المعلومات؟ ولماذا لا يظهر رؤساء فوضويين بهويتهم الحقيقية ويشرحون ما الذي يفعله العلم الاسود في ايديهم؟ ولماذا لا يسعون الى ان تجرى معهم المقابلات الصحفية فيعلنوا اذا كانوا بالفعل يريدون الغاء الدولة اليهودية – واذا كان هكذا بالفعل – فلماذا يحمل نشاطهم طابعا شبه سري، باستثناء عنفهم الفظ الذي يتجاهل تماما رأي الجمهور مثلما ثبت في الانتخابات؟
كلمة “أناركيا” (فوضى) هي في اليونانية القديمة، ومعناها “بدون حكم” او “انعدام الحكم”. وفي اطار “العمل المباشر” الذي روجوا له في القرن التاسع عشر، اغتال الفوضويون اومبرتو، ملك ايطاليا؛ كارنو، رئيس فرنسا؛ ماكينلي، رئيس الولايات المتحدة، واعضاء برلمان ومؤسسات عامة كثيرين آخرين. وعقدوا في 1983 مؤتمرا دوليا في بطرسبورغ، حيث قرروا برنامجهم السياسي وعلمهم الاسود الذي جاء ليحل محل العلم الاحمر الاشتراكي. هذا يعني ان ليس فيروس الكورونا هو سبب ظهورهم، بل لا يشكل بالنسبة لهم الا ذريعة وفرصة للاظهار بأن رغبتهم هي إلغاء الحكم الديمقراطي بالعموم، وإلغاء الدولة القومية اليهودية. وإلا فلماذا يرفعون علم الفوضى الدولي، وما هو سبب حربهم ضد “الاحتلال”، اي ضد اجراء يتمثل بعودة صهيون واقامة الدولة؟
لقد انتهت الحرب الاهلية في اسبانيا في الاعوام 1936 – 1939 بسبب الحركة الفوضوية التي عنيت هناك ابتداء من 1931 بإحراق الكنائس وبقتل القساوسة بالجملة. اللورد توماس هايو، كاتب الكتاب الرمز عن الحرب الاهلية في اسبانيا، يشير الى أن المفكر الفوضوي الروسي فاكونين أثّر على الفوضى الاسبانية بجملته الشهيرة بأن “العالم الجديد” لن يقوم الا عندما يخُنق الملك الاخير بامعاء القس الاخير”. وحتى في روسيا السوفياتية كانت الفوضوية تعتبر “نظرية مضادة للثورة، وحبس زعماؤها وعوقبوا بشدة”.
منذ وقت غير بعيد احتفلت الصحافة بالذكرى الـ120 لميلاد الكاتب انطوان دي سانت – اكزفري، الانساني المحبوب في كل العالم. في كتابه “ارض الانسان” في طبعته الاميركية، اضاف الكاتب فصلا اخير عن افعاله في انقاذ القساوسة من الموت ونقلهم في طائرته من اسبانيا الى فرنسا. فقد تباهى بذلك وهذا يقول شيئا ما عن الاحتقار الذي يكنه تجاه حملة الاعلام السود، الذين لديهم تقاليد عنف بلا حدود. يخيل لي كما اسلفنا بأن هدفهم ليس القضاء على الكورونا بل على ما يبدو القضاء على الدولة القومية اليهودية.
للمؤسسات الامنية ايضا يوجد دور – منع الكراهية اللاذعة التي تبثها الأعلام السود في سياقها التاريخي إذ ان من لا يتعلم من التاريخ، مآله أن يعيد احياءه.