عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    11-Jun-2024

أطفال يحسنون الموت والحياة والكتابة

 الغد- فيصل درّاج

 الذي كان يمر في منطقة الجامعة العربية، في بيروت قبل خمسين عاما، كان يودع بنظراته صورة شهداء ودعوا أهلهم والتحقوا بالوطن. عاشوا طفولة ممزقة في مخيم صبرا، أو بقايا مراهقة في مخيم شاتيلا، وكان حظهم من الشباب، في المخيمين، قليل. وكان المار، إذا أمعن النظر في الجدران يلمح بقايا صورا لشهداء مخيم تل الزعتر استشهدوا مع أهلهم في المخيم الشهيد الذي اغتالته نيران متقاطعة يلوك مطلقوها لغة تشبه العربية. وكان بإمكان الشاهد أن يستكمل النظر في جدران مخيم نهر البارد، شمال بيروت، الذي اخترع له كارهو الفلسطينيين جرائم وهمية ليبرروا جرائمهم الحقيقية.
 
 
وكانت عين الذي يمر بجواري مخيم  اليرموك، قبل أن يهجر أهله إلى اللا مكان، تستكمل صورة الشهادة الفلسطينية بملصقات متتالية، تجابه الشمس أو يبللها المطر، إذ تلتف حول ذاتها وتتداعى وتذروها الرياح. حينها يسأل الناظر، إن كان كريم الأخلاق: إلى أين يذهب الشهداء؟ من دون أن يطلبوا منه إجابة.
لا أحد يحفظ أسماء الشهداء، ولا شهداء المخيمات يطالبون بحفظ أسمائهم، ولا المخيمات تكف عن ولادة الشهداء. تختلف المخيمات الفلسطينية ولا يختلف الشهداء. كأن المخيم لا يكون فلسطينيا إلا بشهدائه، يلتحف ببؤس معيش وبكبرياء واسع يتاخم حدود السماء. يودع شبابا تركوا لأمهاتهم ابتسامات ناقصة ووعدا بالرجوع، ولاحقتهم أمهاتهم بدعوات دامعة قبل الشهادة وبعدها.
في تضاعيف الكلام الفلسطيني مفردة مستقرة الإقامة: الشهيد، تراه العيون ولا تراه، يصفق له الأطفال ويثني عليه الشعراء، يتحدث عنه أهله وأصدقاؤه وجيرانه ومعلم التاريخ، الذي يذكر بخير "عبد القادر الحسيني"، ولا ينساه الروائي وهو يهجس بكتابة وطنية. الروائي جبرا إبراهيم جبرا مثقف فلسطين الألمع، قبل النكبة وبعدها، استهل روايته "صيادون في شارع ضيق" شابة استبقى منها الشر الصهيوني، يداً مبتورة غطاها الغبار. وحسين البرغوثي، الذي غادرنا مبكراً، تأسى على أرض فلسطينية افتقدت حيواناتها الأليفة واغتصبتها معسكرات إسرائيلية لها لون القيح والأوبئة. أما العزيز غسان كنفاني، فكتب عن الشهداء وذهب شهيداً بعد أن قال: "لا يختار الفلسطيني كيف يعيش لكنه يختار موتا عزيزا متوجا بالبطولة".
اعتبر هؤلاء الثلاثة، كما غيرهم، الكتابة فعلا عنيدا مقاتلا، يجمع الحب بالأغنيات ويوحد بين الأغنيات العاشقة والأماني المنتصرة. انتهوا إلى نصوص أدبية نبيلة الصوت ومفتوحة النهايات، فالنص الأدبي الفلسطيني يعيش برسالة تسافر إلى الوطن المغتصب وتتأبى على الانغلاق.
آثر الأطفال الفلسطينيون، الذين لم يخطئهم رصاص جيش الاحتلال، أن يؤنسوا حياة أمهاتهم، ذهبوا صغارا، وبقوا أحياء في قلوب أمهاتهم، يسردون لهن بطولة البقاء، ويسرد الأمهات حكايات الأطفال الشهداء، الذين لا يبخلون  بالرسائل على الأحياء، ولا يقتصدون في تقديم النصائح والحكايات المتفائلة. وأمهات الشهداء نسل خاص من البشر، يحاورن أبناءهن ليلاً ونهارا، ويدعون لهم "بالتوفق" قبل الشهادة وبعدها. وأم الشهيد راعية الحكايات ومخبأ القصص الحزينة. ما لم تقله الأمهات للأبناء في حياتهم يقلنه، مع بعض الدموع، بعد استشهادهم، وما لم يعبر عنه الشهداء الصغار، وهم في أحضان أمهاتهم، يستعيدونه بحنان في قبورهم الصغيرة.
يقترح الشهداء الصغار لونا جديدا من الأدب، يوسع ما جاء به جبرا وغسان ودرويش، ويضيف إليه صورا غير مسبوقة. ما سأله غسان في روايته: "ما تبقى لكم" يمده الأطفال الراحلون بجواب فصيح: تبقت لنا الكرامة وتصحيح الأخطاء وتعرية قلوب راكدة كأنها أحجار، يتكسب أصحابها من مقاماتهم الزائفة ويجهلون أن "جبل جرمق" أعلى جبل في فلسطين، وما قاله محمود في ديوانه "عصافير الجليل" يضيف إليه الشهداء الأبرياء أجنحة مورقة.
لا ينسى هؤلاء الأطفال. الأنبياء ما قالت به المخيمات الفلسطينية المتعددة، لا فرق إن كانت قائمة أو سوتها بالأرض مخلوقات آثمة تتكلم العربية بطريقة عبرية، فالأطفال المقتولون جاءوا بدورهم من مخيمين قلنديا و"يبنا" ومن أنحاء الخليل وطولكرم حي الشجاعية في غزة، حيث الموت لا ينام والذي يواجهونه يعرفون الجوع والإرهاب ولا ينامون.
من علم الطفل الفلسطيني دروس الشهادة؟ وهل تعلم من معلم أم أنه علم المعلم قبل أن يعلمه؟ ألغى الطفل الذي تحاصره الطائرات الإسرائيلية، السؤال التقليدي: من يعلم المعلم؟ لا أحتاج إلى معلم أجاب، فقد علمني صاحبي الذي نزف طويلاً قبل أن يسلم الروح، واعتنى بتعليمي والدي الذي أرداه الصهاينة قتيلا وهو خارج من السجن، وعلمتني ابنة الجيران التي أصابتها شظايا قذيفة وحملها أخوها إلى أنقاض مشفى وفارقت الروح في الطريق، وعلمتني "خالتي"، التي لم يستبق القصف الإسرائيلي من أبنائها السبعة إلا الولد الأصغر، كان حينها يشتري خبزا للعائلة وأقلام رصاص وممحاة ودفتر رسم، وحفظت وحافظت على قصص غسان، وشيئا من قصائد درويش، وعلمني النظر المحاصر ألوان علم بلادي خافقاً في الهواء، رغم أكثر من جرح وحريق وقذيفة.
أخ عزيز من الضفة/ البيرة، لم ألتق به، أرسل لي ستا وثلاثين صفحة بأقلام "الأطفال الشهداء"، الذين يطيرون خفافاً من البيت إلى المدرسة وبين الأرض والسماء ويستقرون في قبر مفتوح النوافذ، فلا أحد يعتقل طفلاً جاء بروحه للوطن. أدب الأطفال- الشهداء يتسم بمغايرة شاملة، ويختلف عما تركه لنا غسان الذي ذهب إلى شهادته، ولم تأت إليه، وقصائد محمود الذي لم يألف الخيول الوحيدة، وسميرة عزام التي كف قلبها عن الخفقان وهي في الطريق البري من عمان إلى بيروت حين عرفت في الخامس من حزيران العام 1967، أنها لن تعود إلى فلسطين. ترك هؤلاء الثلاثة لنا، كما غيرهم، وثيقة في السلوك الوطني ووثيقة أخرى في الإبداع الأدبي. ولذلك أتقدم بالشكر والتقدير والاحترام للأستاذ وسام الرفيدي الذي أرسل لي هذه النصوص.
خلف الأطفال- الشهداء وراءهم ما تركه غيرهم، وأضافوا إليه وثيقة ثالثة لا يستطيع صياغتها غيرهم: الحكايات النقية، شكلا ومضموناً وكتابة وصورا أدبية تبعث على التقدير والبكاء معا. لم تستشر حكاياتهم ناقدا أدبيا، أو ما يدعى بذلك، أو من قراءته النصوص المتعارف عليها، ولم تأخذ برأي أستاذ جامعي، أو ما يدعى بذلك، اكتسب تربية تقليدية ونقل إلى تلاميذه تربية أكثر تقليدية، وبقيت بمنجاة عن "لغة الأدعية" المستقرة أبداً، ومن صور أدبية مرجعها المنفلوطي وجبران خليل جبران.
استولد الأطفال ما أرادوا قوله، وهو نقي كمطر السماء، من ذواتهم الضيقة الكتفين الواسعين الرجاء. أعطوا ما عاشوه تأويلاً متمرداً ومضوا بسلام، صاغوه من حكايات أمهاتهم ومن حكاياتهم "الطويلة العمر" التي تناقلتها أمهاتهم عنهم وارتجلها أصحابهم أمام الأمهات والمعلمين والبيوت الفقيرة والموت غير الرحيم وشهدت عليه السماء وتناهت إلى تلال فلسطين القريبة والبعيدة.
لا مجال في حكايات الأطفال للقواميس، فلغتهم بسيطة، ولا ضرورة للكناية والمجاز والشبه والمشبه به، فما يقول به الطفل الشهيد جاءت به طفولته القريبة من الله وما سمعه من "خاله" عاد وحوره خياله البريئ، وما أراد الأب تعليمه سبقته إليه المخيمات وفصل فيه المعيش الدامي تفصيلا لا يحتاج إلى إضافة.
في عناوين "الحكايات الغريبة"، ولا أجد صفة ملائمة أخرى، ما يشرح مبتدأ الطفل الشهيد ومنتهاه: في مستهل الصفحة الأولى كلام يقترب من النشيد: "في داخل كل أم شهيد فلسطيني ثمة روائية أنقى منا جميعاً" من أين يأتي النقاء الروائي؟ لا يأتي من كلمات تصرف بها الكثيرون من الروائيين، أتقنوا الكتابة أم أخطأوا في التهجئة، لا وجود للسان أفصح من قلب أم فقدت ابنها الأول وهو ذاهب إلى المدرسة. ولا لحزن أعمق بلاغة من تفجع أم على حفيدها الأول صرعه رصاص إسرائيلي مع أبيه بلا سبب، وهو أمر شائع في غزة اليوم التي تغزوها أهوال لا تنقطع. والهَوْل هو الرعب الذي لا يعبر عنه، تقصر اللغة عن وصفه، ما لا تذكر بداية وما لا يعد نهاية قريبة. يسلب الوجود معناه ويدرب القلب على خفقان طويل الأمد. ويعلم الفلسطينيين أن في البكاء شكوى وكبرياء معا. والأسى المستديم، الذي تشرق به حناجر الأطفال القتلى يأتي بلا تعليم، فلا أحد يعلم الإنسان معنى الحزن وضرورة البكاء. يعلم الفلسطيني، إن كان في غزة أو في الضفة، أن ثمة وحوشاً في الطريق، تنهش خطواته وأنها تفاجئه بما لم يتوقعه وهو ينتظر ابنته الصغيرة راجعة من المدرسة.
أن تكون معلما في فلسطين هو إدراكك أن عدد تلاميذ الصف يتناقص بلا إنذار، وأن عددا من كتب الدراسة يتراكم في نهاية الأسبوع، وأن التلميذين النجيبين اللذين يحتلان المقعد الأول يتخليان عنه بلا توقع، وأن حزنا يهيمين على الصف حين يَفتقد التلميذ الأكثر مشاكسة، وأن الضحك يغيب عن الصف غيابا موجعا، وأن المعلم الذي يشرح لتلاميذه الصغار حكاية المتمرد النبيل عنترة، قد لا يأتي في اليوم اللاحق ولا في الأيام التالية.
أنت معلم في فلسطين، إذن، لا تتفاجأ بتلميذ يدخل مبتسما مع عكازات: وأن تكون فلسطينا معناه، إذن، ألا تفاجأ حين ينقطع الهواء عن أهل غزة، وأن أطفالا افتقدوا الهواء والماء والغذاء نظروا إلى السماء وسقطوا في الطريق، وألا يتسع فكرك لهذا الصمت الكوني الرسمي المريب الذي يفتك بأهل غزة وبأطفالهم الذاهبين إلى الشهادة.
حزن جماعي فلسطيني بصيغة المفرد، فالقتيل الفلسطيني في بداية النهار يشبه الشهيد في نهاية النهار، وأم الأول لا تختلف عن أم الأخير إلا بعدد الأبناء الراحلين واختلاف أعمارهم، أكانوا متقدمين في العمر أو لم يتجاوزوا العاشرة. ذلك أن جنود جيش الدفاع يريدون أن يصادروا أعمار الصغار، كي لا يصبحوا كبارا. كأن الاحتلال الإسرائيلي يتدخل في صناعة "الأطفال الشهداء" أو كأن الخيال الفلسطيني الحالم بالحرية والاستقلال يزهد بآلة الموت الإسرائيلية. الأطفال الشهداء أرواح متحررة من عوائق المكان والزمان، أرواح خالصة تحلق فوق الأرض وتحتها وتطير في أرجاء الزمن تقدما ورجوعا، تخفق بأجنحتها طليقة، لا تقيدها "مادة" ولا يعوق حركتها جنرال إسرائيلي تحصن بدبابات أميركية الصنع. أرواح مشبعة بالنقاء تتحرك خفيفة كأنها أثير.
يدور الأطفال الشهداء في فضاء نوراني، يتساوون في النبل والوفاء، والإيثار، ويكافؤون بما يرغبون به. فليس لقبورهم جدران ولا حدود يزورون غيرهم من الشهداء ويزورونهم، وتحملهم أرواحهم إلى حيث يشاؤون. حدودهم تمتد من الوطن الذين ذابوا في ترابه إلى السماء المسكونة بالملائكة.
لا يفتقدون أمهاتهم، فأمهات الشهداء يلازمن أبناءهن، لا يبتعدون عن أحبابهم الشهداء يمرون على مدارسهم القديمة والجديدة ويلقون التحية على معلمين قاسموهم الشهادة، ويرسلون إلى آبائهم رسائل من نور وضياء، ويرد الآباء الشهداء على رسائل أبنائهم ويتواعدون على اللقاء في الوطن.
وقبر الشهيد تعبير مجازي، يغادره وينظر إلى السماء، كما لو كان قبره من أريج وهواء، والشهيد النوراني القوام لا ينقطع عن زيارة روابي فلسطين وسهولها وينابيعها، ويسرد للقدس كيف غادرها وكيف يعود إليها، كأن الشهادة نعمة يغدقها الله على عباده الصالحين.
الشهيد الفلسطيني إنسان انتزعه شرفه الوطني من حصار إسرائيلي بغيض، يستعيد حياته بشهادته ويرمي بمحاصريه جانباً: فلو شاء الفلسطيني الهوان لعاش ميتا من دون أن يدري، ولبقي في سجنه "سالما"، حال بشر يظنون أنفسهم أحرارا اعتادوا على حياة العبيد.
والشهداء الأطفال أغنية دامية، ينزفون دماءهم ويعودون، بعد الشهادة أنقياء، كما خلقهم الله وكما أراد لهم أن يكونوا. أغنية كريمة بالغة الحزن، وذات تاريخ عريق، عمره مائة عام وأكثر، فتاريخ فلسطين، المستمرة في بقائها، من تاريخ شهدائها في الأمس واليوم، كما لو كانوا جراحاً تسير على قدمين أو مظاهرة متعددة الأصوات، اشترك فيها عجائز فانون ومتقدمون في العمر يعتكزون شيخوختهم، وحافظ على استمرارها شباب لهم عمر الورود، وهتف في مقدمتها أبطال صغار القامة واسعو القلوب والعيون، يخشاهم العدو الصهيوني ولن يخشونه يدعون: الأطفال الشهداء.
وأخيرا، علي أن أتوجه بالشكر والتقدير إلى الأديب اللامع زياد خداش الذي بذل جهدا كبيرا في تنظيم المادة ووضع العناوين الملائمة.
 
من مقدمة عمل جديد يعتزم نشره
* ناقد وكاتب وباحث فلسطيني