عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    12-Jun-2025

العرب وإسرائيل وعامل الوقت* غازي العريضي

العربي الجديد -

 
تستمرّ المجزرة المفتوحة في غزّة، عمليات قتل جماعي يومياً تستهدف مدنيين جوّعوهم، ثمّ نصبوا لهم فخّاً عند توزيع المساعدات الغذائية، فراحوا يقتلونهم باسم "الإنسانية"، والعالم يتابع ذلك في شاشات التلفزة. دول أوروبية دعت إلى منح فلسطين عضويةً كاملةً في الأمم المتحدة، انهالت عليها الإدانات والاتهامات والحملات من إسرائيل وأميركا. كانت دعوة في مجلس الأمن إلى اتخاذ قرار إنساني بشأن غزّة يطالب برفع فوري وغير مشروط للقيود المفروضة على دخول المساعدات، والسماح للأمم المتحدة وشركائها بتوزيعها في أنحاء القطاع. عند التصويت، استخدمت الولايات المتحدة حقّ النقض (فيتو). سقط القرار، ما يُطلق يدَ إسرائيل أكثر، فتستمرّ في استباحتها دماء الفلسطينيين. رغم الخلافات على إدارة بعض جوانب الحرب بين أميركا وإسرائيل لا خلاف على الموقف المبدئي، وعلى مستقبل قطاع غزّة والضفّة الغربية معاً. يدعو رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت إلى "طرد الإرهابيَّين بن غفير وسموتريتش من الحكومة"، ويؤكّد: "إسرائيل ترتكب جرائم حرب في قطاع غزّة، ودعوة وزراء إلى تجويع سكّانها وإبادتهم هي جريمة حرب لم يعلّق عليها نتنياهو. يحرقون البيوت وبساتين الزيتون، يقتلون الناس، والذين يجري اعتقالهم هم من الفلسطينيين الضحايا". هذا أولمرت، الذي قاد حروباً ضدّ لبنان والفلسطينيين، يتحدّث وكأنّ ما يجري لم يسبق له مثيل (!).
 
    لا يجوز أن نستمر عربياً بالذهنية ذاتها، والتوّهم أن المال يحمينا، أو أن اتفاقات إبراهيمية (أو غير إبراهيمية)، يمكن أن وتوفّر أمناً وسلاماً واستقراراً وازدهاراً
 
يعلن وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس بوضوح: "بدأنا بتنفيذ سحب الجنسية وطرد (المخرّبين) من حملة الجنسية الإسرائيلية". يعني، بدأ الخطر يطاول فلسطينيي الداخل، ويؤكّد ما كنتُ أركّز فيه دائماً: "ثمّة خطر على حقّ البقاء، وليس فقط على حقّ العودة". ويضيف: "سنبني الدولة اليهودية الإسرائيلية في الأرض، وهي رسالة واضحة إلى ماكرون وأصدقائه. هم سيعترفون بدولة فلسطين في الورق. وسيُرمَى هذا الورق في سلّة مهملات التاريخ، وستزدهر دولة إسرائيل". أمّا وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، فيؤكّد الإجراءات العملية لضمّ الضفة عند إعلانه: "أصدرت تعليماتي لموظفي الإدارة المدنية بالبدء في العمل لإحلال السيادة على الضفة الغربية. إنها (يهودا والسامرة). هذه أرضنا. ونحن نقرّر". وتدخل قوات الاحتلال مكتب قناة الجزيرة في رام الله بهدف منعها من تغطية ما يجري في الأرض، وسبق أن أقفلت مكتبها في القدس واستهدفت مراسليها ومصوّريها، وعدداً كبيراً من الصحافيّين الذين سقط منهم الشهداء. ذلك كلّه في محاولة لطمس الحقائق والوقائع، والمضي في مشروع تهويد الأرض، كلّ الأرض. وتدخل واشنطن في الخطّ، فتنتقد "بي بي سي" بسبب تغطيتها الحرب الإسرائيلية على غزّة، فتردّ المحطّة البريطانية: "لا نحذف أيّ خبر ونتمسّك بمصداقيتنا الصحافية، والأرقام تُحدّث بشكل طبيعي، وفقاً لمصادر مختلفة". حتى "بي بي سي"، التي كانت جزءاً من السقوط الإعلامي في بداية الحرب، تصوّب مسارها لأن ما يجري يفوق كلّ تصوّر، ولم يعد يُحتمَل أيضاً. والجيش يرقّي ضباطاً أُمروا بإطلاق النار حتى الموت على فلسطينيين كانوا يرفعون "رايات بيضاء"، ووزير الزراعة آفي ديختر، الذي كان رئيساً لجهاز الشاباك في مرحلة معينة، يقول: "انتهى فصل غزّة في إسرائيل. أقول لمن في غزّة إنه لجيلَين قادمَين سيرون إسرائيل فقط في الصور والأفلام، عليهم أن يبحثوا عن مياههم وعلاجهم واقتصادهم في دول أخرى". ويضيف: "لا توجد في غزّة عائلة واحدة لا تملك ثأر دم ضدّنا. لذلك، لن يكون من الصواب، بأيّ شكل فتح غزّة على إسرائيل". إنه اعتراف بالعدوان والقتل وارتكاب الجرائم، الذي يولّد هذه المشاعر في نفوس الفلسطينيين. فكيف عندما تستخدم حكومة نتنياهو (باعترافه) مجموعات من المدانين بجرائم مختلفة في القطاع ليقاتلوا ضدّ "حماس"، وتقوم القيامة في إسرائيل نفسها تحت عنوان التحذير من أن هذا السلاح قد يستخدم ضدّها في مرحلة معينة، ونتنياهو يفاخر بما يقوم به.
مرّة جديدة، إسرائيل لا تريد "حماس" ولا تريد السلطة الوطنية. تريد استباحة كلّ شي. ولا تحترم الشرعية الدولية، ولا مواقف الدول والحكومات الغربية المؤيّدة لها، ولكن الداعية إلى وقف الحرب، وبعضهم استخدم تعبير "الإبادة الجماعية" في توجيه الانتقادات إليها. ضمّ الضفة، استهداف القدس والمسجد الأقصى، سحب الجنسيات... كلّها خطوات في طريق تكريس يهودية الدولة، ولا تتلاقى مع أيّ دعوة أو تمنٍّ لـ"حلّ الدولتَين". ثمّة دولة واحدة يهودية اسمُها إسرائيل. في السابق كان إذا زار مسؤول عربي إسرائيل أو الضفة الغربية، بإذن منها، تعمّ الفرحة، ولا يتوقّف الحديث عن الإنجازات والتطبيع.
 
    حتى "بي بي سي"، التي كانت جزءاً من السقوط الإعلامي في بداية الحرب تصوّب مسارها في تغطية ما يجري في غزّة
 
اليوم، ترفض إسرائيل دخول وفد عربي إلى الضفة بناء عل دعوة السلطة الفلسطينية، وتدير الظهر لمعاني ومغازي هذه الخطوة. والعرب لا يعرفون ماذا يفعلون حتى من موقع ردّة الفعل.
هذا يعيدني إلى ما كتبتُه (4/1/1995)، في كتابي "لبنان الثمن الكبير للدور الصغير" (بيروت، 1999. ص 139) في تناول انعكاسات السلام والتطبيع على لبنان، فقلت: "إسرائيل ستظل قوّةً عسكريةً منفصلةً، ومجتمعاً بشرياً متميّزاً يغذّيه الشعور بالتفوق، ولكنّها ستندمج اقتصادياً في ما حولها أو هي ستدمج ما حولها في اقتصادها، وستنفتح عليها الحدود دون أن تفتح حدودها. وتذوب العداوات معها دون أن تذوّب عداواتها. سيطلب العرب صداقتها وسيدفعون الثمن. ستكون غداً مركز الاتصال والرصد ومخفر الأمن".
هذه هي إسرائيل، في الأساس هكذا تصرّفت، وهكذا تتصرّف اليوم. المطلوب عربياً، ولو بعد تأخّر طويل، أن نقرأ المشهد والسيرة بشكل صحيح، أن نشخّص الحالة بطريقة صحيحة لنقدّم الحلّ الصحيح. لا يجوز الاستمرار بالذهنية ذاتها، والتوّهم أن المال يحمينا بالطريقة التي نتصرّف بها، أو أن اتفاقات إبراهيمية كانت أم غير إبراهيمية يمكن أن تحمي وتوفّر أمناً وسلاماً واستقراراً وازدهاراً في المنطقة، إذا استمرينا بعدم معرفة عناصر القوة التي نملكها، والتي تستهدفها إسرائيل. عامل الوقت ليس في مصلحتنا.