الجزيرة - وكالات الشؤون الخارجية الأميركية غير مجهزة لحرب القوى العظمى القادمة، لكن يبدو أن لا أحد يتحدث عن هذ الأمر، كما أن التقارير الأخيرة تنظر إلى دبلوماسية الأزمات على أنها أمر مفروغ منه. ولا تدرس معظم التعليقات عجز الحكومة الأميركية عن التوفيق بين قوتها العسكرية والمدنية.
وفي مقال نشرته مجلة "وار أون ذي روكس" الأميركية، تطرق الكاتب المختص في الشأن العسكري كايلب بيكر إلى استنتاج لجنة إستراتيجية الدفاع الوطني حيال فشل الدبلوماسية الأميركية.
وورد بين طيات هذا الاستنتاج أن هناك توجها لإسكات الأصوات المدنية التي تطالب بالنظر في القضايا المتعلقة بسياسة الدفاع والأمن القومي للولايات المتحدة، مما قوض مفهوم السيطرة المدنية. وينطبق الأمر ذاته على الإدارات والهيئات المعنية بالشؤون الخارجية التي تنشط بالتعاون مع الجيش الأميركي.
وأضاف الكاتب أن الدبلوماسيين الأميركيين على علم بالسبل المثلى لتحفيز الروابط الاقتصادية والاجتماعية التي تساهم في تكوين شبكات من العلاقات مع الشركاء، لكن ما يفتقرون إليه هو هيكل الشؤون الخارجية المدني الذي يسمح لهم باستغلال هذه القدرات بشكل فعال في مواجهة التهديدات غير العادية.
من هذا المنطلق، يتعين على المسؤولين المختصين بوضع أسس السياسة الخارجية فحص العلاقات الإنسانية، والنظر في الحسابات الإنسانية التي تشكل قوام العلاقات الخارجية. ومن جهتهم، لاحظ الكثيرون أن النموذج الدبلوماسي الأميركي الحالي غير فعال في سياق الدبلوماسية المعتادة في زمن السلم، لا سيما في ظل الانقسام الواضح بين جهات العمل وعدم القدرة على توحيد الجهود.
ويرى الكاتب أن مثل هذه التوصيات المُفصّلة لتغيير هذا الوضع، وإصلاح أوجه القصور، دائما ما ينتهي بها المطاف بغض النظر عنها إلى تجاهلها. ويستوجب هذا الواقع النظر بشكل مختلف إلى هيكل عمليات الشؤون الخارجية الأميركية في مواجهة خطر اندلاع محتمل لحرب القوى العظمى من جديد.
"
من الناحية النظرية، يتحمل السفير الأميركي في بلد معين مسؤولية تنفيذ سياسة الولايات المتحدة داخل ذلك البلد. وعمليًا، لم تحدَّد ملامح سلطة هذا السفير في الواقع، التي تتمحور حول تنفيذ الرؤى والأولويات المتضاربة عن طريق الوكالات المستقلة، فسلطته تعتمد في نهاية المطاف على تعليمات الرئيس
"
ما الفرق بين الأمور النظرية والعملية؟
ذكر الكاتب أن كل بعثة دبلوماسية أميركية يُطلَب منها وضع إستراتيجية متكاملة تحدد أهداف الوجود الأميركي في أي بلد، لكن وزارة الخارجية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية وحدهما تلتزمان بهذه الإستراتيجية، في حين لا يُطلَب من أي إدارة أخرى العمل بها.
في المقابل، لا أحد يتحمل مسؤولية نجاح أو فشل الجهود المبذولة لتحقيق الأهداف الموضوعة في هذه الإستراتيجية، كما أن وزارة الخارجية الأميركية لا تجد طريقها في الكثير من الأحيان إلى قوائم وكالات الشؤون الخارجية. ويدل هذا الأمر على عدم إيلاء اهتمام كافٍ بتنفيذ السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
من الناحية النظرية، يتحمل السفير الأميركي في بلد معين مسؤولية تنفيذ سياسة الولايات المتحدة داخل ذلك البلد. وعمليًا، لم تحدَّد ملامح سلطة هذا السفير في الواقع، التي تتمحور حول تنفيذ الرؤى والأولويات المتضاربة عن طريق الوكالات المستقلة، فسلطته تعتمد في نهاية المطاف على تعليمات الرئيس.
وبناء على ذلك، يمتلك السفير سلطة محدودة في تقييم الموظفين داخل الوكالات الخارجية، كما أنه لا يتم الرجوع إليه بشكل كبير في حل النزاعات بين الوكالات الناشئة في واشنطن.
وأوضح كاتب المقال أن لهذه الصراعات في العاصمة الأميركية تداعيات عدة. كما تطرق إلى تصريح السفير الأميركي المتقاعد رونالد نيومان في هذا الصدد، والذي ورد فيه أن ميل واشنطن لاعتماد إدارة مصغرة ونسق التغيير المتسارع وهرم القيادة المدنية الصغير نسبيا اجتمعت معًا لخلق ثقافة تجعل القرارات المتخذة تستند بشكل أساسي إلى التعليمات القادمة من واشنطن.
بغض النظر عن مجهودات السفير، يمكن لفشل الوكالة في التنسيق وتنفيذ هذه التعليمات أن يؤدي إلى مجهودات غير فعالة في هذا المجال. ومثال هذا الفشل انتشار فرق إعادة إعمار المحافظات في العراق واحتياج وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين لأكثر من سنة للاتفاق على التفاصيل المهمة المتعلقة بهذا الشأن.
وبين الكاتب أن الفشل في معالجة الوحدة المشتركة بين الوكالات بشكل منهجي يقود إلى تقويض قدرة الموظفين الأميركيين على إنجاز المهام بفعالية وببراعة قبيل النزاعات. ولتطبيق إستراتيجية المؤرخ والكاتب الأميركي ستيفن بيدل المتعلقة بكسب الحروب الحديثة، يجب أن يتمتع الدبلوماسيون الأميركيون بالقدرة على اتخاذ قرار سريع ومستقل، والتعامل مع ما هو غير متوقع.
"
ضمان الحصول على دعم دولي أمر صعب للغاية، لا سيما أنه يتم توفير وسائل متطورة وذات قدرات عالية من أجل تعطيل المصالح الوطنية دون ترك أي دليل واضح يدل على هوية الجاني
"
من المسؤول؟
وأضاف الكاتب أنه حتى لو تم توحيد الجهود سيظل السؤال المطروح هو ما إذا كانت المؤسسات والموظفون يمتلكون السلطات القانونية والمسؤوليات المفوضة للتعامل مع المنافسة بين القوى العظمى أو الحرب.
على سبيل المثال، في حال اندلاع صراع كبير محتمل، ستلعب المعلومات دورًا رئيسيًا، حيث ستسعى الأطراف المتعارضة إلى جذب الحلفاء وتثبيط الأعداء المحتملين. ومع ذلك، تشير وثيقة إستراتيجية الأمن القومي إلى أن الولايات المتحدة ستعمل على مكافحة استغلال المعلومات من قبل المنافسين.
في محاولة للتصدي لهذا الأمر، أسند قانون إقرار الدفاع الوطني لسنة 2017 لمركز المشاركة العالمية التابع لوزارة الخارجية مسؤولية قيادة وتنسيق الجهود الحكومية لمواجهة الحملات الدعاية الأجنبية ومكافحة المعلومات الكاذبة التي تهدف إلى زعزعة استقرار كل من الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها.
وذكر الرقيب كينيث إي توفو، وهو القائد العام السابق لقيادة العمليات الخاصة للجيش الأميركي، أنه لا يزال هناك انقسام سببه الهيئات التي تفتقر إلى السلطة لتنفيذ جهودها فيما يتعلق بمكافحة التضليل.
وأفاد الكاتب بأن ضمان الحصول على دعم دولي هو أمر صعب للغاية، لا سيما وأنه يتم توفير وسائل متطورة وذات قدرات عالية من أجل تعطيل المصالح الوطنية دون ترك أي دليل واضح يدل على هوية الجاني.
وعلى الرغم من أنها تحظى بتعاطف عالمي بعد تعرضها لأبشع الهجمات الإرهابية في تاريخها، بالكاد نجحت الولايات المتحدة في الحصول على دعم من الجماهير الأجنبية فيما يتعلق بقضية حرب العراق.
في الحقيقة، يمكن أن يؤثر الرأي العام على قرار الدولة حول ما إذا كانت ستقدم دعمها لبلد آخر أم لا، ولا يعني ذلك أنه ينبغي على الحكومة بذل مجهود أكبر في محاولة إقناع الآخرين بالوقوف في صف أميركا.
وتساءل الكاتب عن الطريقة التي ستعمل بها الوكالات معًا من أجل حماية وإنقاذ المواطنين عند اندلاع الحرب، وحول ما ينبغي عليهم فعله من أجل حماية المصالح الاقتصادية لأميركا.
في الواقع، هذه مجرد أمثلة قليلة من القضايا الكثيرة التي سيتعين على المدنيين العاملين في الخارج معالجتها مع السلطات القانونية. ويمكن القول إن جميع هذه القضايا والعديد من القضايا الأخرى تلعب دورا هاما في تحقيق النصر أو الهزيمة.
وأشار الكاتب إلى أن التاريخ قد أثبت أن الدبلوماسية تعد جزءًا من قدرة الدولة على شن الحرب. فخلال الحرب الثورية الأميركية، كان للدبلوماسيين الأميركيين دور هام في حصول بلدهم على دعم من فرنسا لمواجهة بريطانيا، مما أدى إلى هزيمة القائد كورن واليس في يوركتاون.
مع تصاعد الحرب في أفغانستان، تمكن الدبلوماسيون الأميركيون من الحصول على الموافقة لتحليق وهبوط الطائرات في القواعد الموجودة في دول آسيا الوسطى، التي كانت مترددة عموما في دعم الحرب.
"
وكالة الشؤون الخارجية الرائدة في أميركا لا تمتلك معيارا لاستخلاص الدروس المستفادة أو لدمجها. ولسوء الحظ، لا تزال الوكالات الحكومية تعاني من العمل العشوائي.
"
هل نحن مستعدون للتأقلم؟
في بداية الحرب العالمية الثانية، تدرّب قادة الغواصات الأميركية على أن يحافظوا على سلامة سفنهم ويعملوا كمساعدين، مما يجعل عملهم غير هادف بتاتا.
ومع وجود الأسطول في حالة يرثى لها، احتاج الأسطول البحري في المحيط الهادي إلى قادة مستعدين للقتال. وفي هذا الصدد، مُنح القادة فرصتين لإظهار نتائج جيّدة، لكن التقديرات تشير إلى أن الأسطول البحري أعفى حوالي 30% من قادة الغواصات خلال عام واحد.
وأشار الكاتب إلى أنه في ظل مواجهة عدو عنيف، يأمل المرء أن تتكيف العناصر المتباينة للدبلوماسية الأميركية بسرعة، كما فعل الأسطول البحري للمحيط الهادي في الأربعينيات.
وفي المقابل، فإن وكالة الشؤون الخارجية الرائدة في أميركا لا تمتلك معيارا لاستخلاص الدروس المستفادة أو لدمجها. ولسوء الحظ، لا تزال الوكالات الحكومية تعاني من العمل العشوائي، ولا يمكن مشاركة الدروس المستفادة من قبل العاملين في وكالة واحدة مع العاملين الآخرين بسهولة.
وبناء على ذلك، تقوض هذه العيوب عمليّة التعلم بصورة منهجية لتحديد ما هو فعّال وما هو غير فعّال فيما يتعلّق بالممارسة اليومية للدبلوماسية.
وفي مثل هذه البيئة، قد لا ينتج عن الاتصال مع العدو أي دروس واضحة أو قابلة للتنفيذ لمجموعة الدبلوماسيين الذين يخدمون بلدهم. ومن شأن توقّف الإصلاحات في وزارة الخارجية أن يسبّب إحراجا كبيرا يتعلّق بمحاولة معالجة هذه الصعوبات.
من جهة أخرى، وكما صرّح وزير الخارجية مايك بومبيو أواخر العام الماضي "في بعض الأحيان لا يكون من الجيد معارضة الوضع الراهن والمطالبة بالبديهي الذي نرفض الحديث عنه أحيانا. ولكنّ عدم تحقيق هذه التوقّعات من شأنه أن يصعّب الأمور على الجميع".
وذكر الكاتب أنه على مر العقود، قدّم بعض الأفراد الذين يفوقونه خبرة توصيات منتظمة عديدة لمعالجة العديد من هذه القضايا. وفي الواقع، لا وجود لحل سحري، فلا يمكن حلّ أي مشكلة دون وجود الرغبة في المحاولة.
وبالنظر إلى مدى التقاعس في معالجة هذه الصعوبات، من حقّ المرء أن يتساءل: لماذا يهمّنا ما إذا كان الدبلوماسيون الأميركيون مستعدين للحرب أم لا؟ ولكن بالنسبة لخط الدفاع الأميركي الأول يجدر بنا أن نكون مستعدين.
المصدر : الصحافة الأميركية