الغد
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
رمزي بارود – (كاونتربنش) 5/12/2025
لنبدأ أولاً بتفكيك هذه الأحجية.
في 29 شباط (فبراير) 2024، تسبب وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، بصدمة حين أبلغ المشرّعين في "لجنة القوات المسلحة" بمجلس النواب بأن أكثر من 25 ألف امرأة وطفل فلسطيني قُتلوا على يد إسرائيل في غزة حتى ذلك التاريخ. وبذلك، قدّم أوستن، القائد العسكري في إدارة بايدن، حقيقة قلبت فورًا خطاب حكومته رأسًا على عقب.
كان الإعلان صادمًا لسببين رئيسيين. أولاً، أن أوستن نفسه هو الذي أشرف على التدفق المتواصل للأسلحة الأميركية إلى إسرائيل، والذي مكّن بشكل مباشر الحملة التي أبادت أولئك الأبرياء في القطاع. ثانيًا، أن الرقم الذي قدمه كان أعلى بكثير من حصيلة الضحايا التي أعلنتها وزارة الصحة الفلسطينية في غزة للفترة نفسها -التي تحدثت عن 22 ألف امرأة وطفل خلال الأيام الـ146 الأولى من الحرب.
لكن جوهر التناقض يكمن في أن رواية أوستن المفصّلة عن الفظائع الإسرائيلية المموّلة أميركيًا في غزة نسفت مباشرة الرواية الرسمية التي داوم البيت الأبيض على بثّها.
في الواقع، كان الرئيس جو بايدن نفسه قد شرع منذ 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 -بعد أسبوعين فقط من اندلاع الحرب- في التشكيك في تقديرات وزارة الصحة الفلسطينية. وفي ذلك الحين صرّح بالقول: "أنا لا أثق بالأرقام التي يُصدرها الفلسطينيون".
بطبيعة الحال، لم يؤدِّ تصريح أوستن في ذلك الحين إلى تقويض دعم بايدن المطلق لإسرائيل، ولا إلى تليين الموقف المتعالي الذي يتخذه تجاه الفلسطينيين. بل على العكس تمامًا، ازداد الدعم العسكري والسياسي الأميركي لإسرائيل بشكل هائل بعد تلك الجلسة. وقُدِّر الدعم العسكري والمالي الأميركي للإبادة الإسرائيلية خلال العام الأول من الحرب في عهد بايدن بما لا يقل عن 17.9 مليار دولار.
مع ذلك، ليست هذه التناقضات في مظهرها تناقضات على الإطلاق بقدر ما هي سياسة مُحكمة ومدروسة بعناية. تاريخيًا، أتاح هذا النهج للولايات المتحدة أن تنتهك باستمرار مبادئها المعلنة. تم غزو العراق -بما انطوى عليه من تكلفة مروعة من الأرواح والدمار الاجتماعي- تحت شعار "النوايا الحسنة": جلب الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وما شابه ذلك. وتحملت أفغانستان زمنًا طويلًا من الحرب والاضطراب على مدى عقدين باسم مكافحة الإرهاب وتصدير الديمقراطية وحقوق النساء.
وفق هذا النهج، يرضي الشقّ العملي من المعادلة المخططين السياسيين والعسكريين. وفي الوقت ذاته، تُبقي الشعارات الجوفاء حول الديمقراطية وحقوق الإنسان المثقفين، من اليمين ومن اليسار على حد سواء، غارقين في سجالات طويلة عقيمة تخدم في التعتيم على السياسات بدل التأثير فيها.
على الرغم من أن الحكومة الأميركية أتقنت فنّ التناقض المتعمّد، فإنها ليست المهندس الأول له. كان الغرب في التاريخ الحديث ينفرد وحده تقريبًا في استخدام هذا النهج: تم الترويج للكولونيالية كحلٍّ للعبودية، وجرى تبرير التنصير القسري على أنه مهمة "تمدينية".
لكنّ موقف الغرب من الإبادة الإسرائيلية في غزة يقدّم المثال الأوضح والأحدث على هذا التناقض المقصود. وتكفي تجربة سلوك ألمانيا خلال العامين الماضيين لإيضاح ذلك.
تشكل ألمانيا ثاني أكبر مورد للأسلحة إلى إسرائيل بعد الولايات المتحدة. ولم تكتفِ هذه الدولة برفض تعريف الإبادة الذي تبنته دول عديدة -وفي ما بعد "محكمة العدل الدولية"- بل قاتلت بضراوة لحماية إسرائيل حتى من مجرد الاتهام.
داخليًا، قمعت ألمانيا بعنف الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين، واعتقلت عددًا لا يُحصى من النشطاء، وجرّمت رفع العلم الفلسطيني -إلى جانب عدد كبير من الإجراءات القمعية الأخرى. ومع ذلك، ظلت ألمانيا في الوقت نفسه تواصل التبشير بحرية التعبير والديمقراطية، وتوجيه الانتقادات لدول الجنوب العالمي بزعم انتهاكها لهذه القيم نفسها.
وكما كان متوقعًا واصلت ألمانيا تسليح إسرائيل، مختلقة كل مبرر يمكن تصوره لدعمها تل أبيب، حتى بعد أن أصدرت "المحكمة الجنائية الدولية" مذكرات توقيف بحق كبار القادة الإسرائيليين بتهمة الإبادة في غزة. ولم يكن سوى تحت ضغط هائل فقط حين رضخت برلين أخيرًا ووافقت على وقف الموافقة على صادرات الأسلحة إلى إسرائيل.
ولننتقل سريعًا إلى الأيام الأخيرة. فقد أفادت "هيئة الإذاعة البريطانية" (بي بي سي) وغيرها من وسائل الإعلام في 17 تشرين الثاني (نوفمبر) أن ألمانيا ستستأنف صادرات الأسلحة إلى إسرائيل، مبررة قرارها بإعلان وقف إطلاق النار في غزة في 10 تشرين الأول (أكتوبر) -وهو وقف انتهكته إسرائيل مئات المرات منذ إقراره.
وقالت "منظمة العفو الدولية" في بيان صحفي: "إن قرار ألمانيا برفع تعليق شحنات الأسلحة إلى إسرائيل هو قرار متهور وغير قانوني، ويوجه رسالة خاطئة تمامًا لإسرائيل" -وهي بطبيعة الحال إدانة تم تجاهلها تمامًا.
ثم، بعد أسبوع واحد، أظهرت أبحاث جديدة أجرتها مؤسستان أكاديميتان مرموقتان أن عدد الفلسطينيين الذين قُتلوا نتيجة الإبادة الإسرائيلية يفوق بكثير أرقام وزارة الصحة في غزة. ولعل الأسوأ هو أن متوسط العمر المتوقع في غزة تراجع إلى نحو النصف بسبب الحرب الإسرائيلية.
إحدى هاتين المؤسستين هي "معهد ماكس بلانك للبحوث الديموغرافية" (MPIDR)، وهي مؤسسة ألمانية رائدة عالميًا، تمولها إلى حد كبير أموال عامة قادمة مباشرة من الحكومة الاتحادية -الجهة نفسها التي تشحن الأسلحة التي أسهمت -إلى جانب الدعم الأميركي- في تضخيم حصيلة القتلى في غزة.
في كل هذه الحالات، يقوم الغرب بالدورين معًا: القاضي والجلاد؛ والباحث النزيه ومصنّع السلاح؛ والمنتهك لحقوق الإنسان والمدافع عنها.
لسنا محكومين، نحن أبناء الجنوب العالمي، بقدر أن نبقى مجرد ضحايا يجري إحصاء حيواتهم بدقة بينما تُنتزع منهم الحياة بالقوة. ولكي نستعيد وكالتنا الجماعية، يجب أن نبدأ بإدراك موحّد لحقيقة أن تناقضات الغرب المحسوبة مصممة خصيصًا لإدامة العلاقة الجائرة بين القوى الغربية وبقية العالم لأطول فترة ممكنة.
لن نتمكن من التحرُّر نتحرر من الوهم التاريخي القائل بأن الحل يأتي من الغرب إلا بفضح هذا النفاق بصرامة، ورفضه بقوة.
*د. رمزي بارود Ramzy Baroud: صحفي ومؤلف ورئيس تحرير موقع "ذا بالستاين كرونيكل". وهو مؤلف لستة كتب، سيصدر أحدثها، "قبل الطوفان" Before the Flood، قريبًا عن دار "سفن ستوريز برس". ومن كتبه أيضًا: "رؤيتنا للتحرير" Our Vision for Liberation؛ و"أبي كان مقاتلًا من أجل الحرية" My Father was a Freedom Fighter’؛ و"الأرض الأخيرة" The Last Earth. وهو باحث أول غير مقيم في "مركز الإسلام والشؤون العالمية" (CIGA).
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Deliberate Contradiction: How the West Plays Dumb and Kills People in Gaza