الغد
عاد موضوع التطبيع مع العدو إلى الواجهة مؤخرا، بين تيار شعبيّ واسع يرفضه رفضا مبدئيا باعتباره تفريطا في الحق والكرامة، وبين نخب معزولة تدافع عنه بزعم أنّ الأمّة راسخة لا تهزّها موجات التّطبيع العابرة في أوسع عملية لتزييف الوعي في تاريخ الأمة. فالتجارب التاريخية تظهر أنّ لحظات الانكسار كثيرا ما تغري أصحاب الهوى بإعادة تعريف الثّوابت، بينما تبقى الفطرة السليمة، تميل إلى رفض التّطبيع مع المحتل والظّلم.
فخطورة التّطبيع أنّه لا يبدأ بقفزة صاخبة، بل عبر منطقة رماديّة تتكاثر فيها المبرّرات وتتلطّف فيها الألفاظ، وقد نجد أنفسنا، دون وعي، نخفّف من وطأة الخطأ أو نتقبّله بدافع العاطفة أو بدعوى الظّروف القاسية. ليس لأنّنا نهوى الشّر، بل لأنّ النّفس الأمّارة بالسوء والشّيطان -كما يحذّر النّص القرآني- يتسلّلان عبر خطوات صغيرة تعيد تشكيل الحس الأخلاقيّ تدريجيا. فبين نزعات الرّغبة والفطرة السّليمة ينشأ صراع خفيّ، تتقاذفه الحيرة وضعف الإيمان والثقة، فتتبدّل البوصلة الأخلاقية دون أن نشعر. يبدأ الأمر بتبرير محدود يستند إلى ظرف طارئ، ثم يتوسّع ليغطّي أنماطا متكرّرة من السلوك، فتزول الحدود بين الاستثناء والقاعدة، ويتجسّد معنى التّحذير من «اتّباع خطوات الشّيطان»: انزلاق متدرّج واعتياد يسلب الخطأ صفته الصّارخة حتى يغدو مألوفا.
تعمل آليات نفسية واجتماعية على تسريع هذا المسار، فالتّعرض المتكرّر للسّلوك الخاطئ يخفّف من الاستجابة الانفعالية له فنقع في التبلّد الأخلاقيّ وتليّن الأحكام، وتتحوّل اللّغة من «خطأ» إلى «هفوة» ثمّ إلى «تفاصيل لا تستحق التّوقف»، وينتقل معيار الحكم من سؤال «الحقّ والباطل» إلى «الشّائع والنّادر»، ونصبح نقيس السّلوك بالنتائج «الموهومة» فقط ونبرّر الوسائل لأنّ «الغاية محمودة».
وفي سياق التّطبيع مع العدو، تتجلىّ المخاطر في الانزلاقات اللّفظية، من خلال استبدال «الاحتلال» بـ»النّزاع»، ووسم المقاومة بـ»العنف»، ووصف المقاطعة بـ»التّشدّد». واللّغة هنا ليست تفصيلا؛ فهي تصنع الإدراك، والأخير يصوغ الموقف. أما الاحتجاج بـ»مناعة الأمّة» لتبرير المرونة مع المحتل فمغالطة مريحة؛ فالمناعة لا تفترض، بل تبنى وتستدام، وتخور مع الجرعات المتتالية من الاعتياد على الاستثناء الأخلاقيّ والسّياسيّ.
المطلوب تحويل الرّفض الشّعبيّ إلى بوصلة عمليّة عبر ثلاثة مسارات متكاملة: أوّلها في مسار اللّغة بتسمية الأشياء بأسمائها وصيانة المصطلحات من التّمييع، فالاحتلال احتلال والعدوان عدوان. وثانيها في مسار المعايير بتثبيت خطوط حمراء لا تخترق تحت ذرائع «الواقعيّة» أو «المصلحة العاجلة»، والتّذكير بأنّ الاستثناء لا يصنع قاعدة. وثالثها في مسار الفعل بتحويل التّعاطف إلى دعم عمليّ يعالج الأسباب بدل تسويغ النتائج بإسناد الضّحية، ومقاومة الظّلم، ومحاسبة الذّات والمؤسّسات على الانزلاقات الصّغيرة قبل أن تغدو أعرافا مستقرّة.
لذلك كان التّحذير القرآنيّ من «الخطوات» لا «الوثبات» غاية في الدّقة والبلاغة، ودعوة إلى يقظة الضّمير والفطرة كيلا يخفت صوتهما تحت ضغط الأعذار. فالإنسان ضعيف بطبعه، لكن ضعفه لا يبرّر إسقاط المعيار. وإذا وعينا آليات التّطبيع، وحرسنا لغتنا، وحاكمنا تبريراتنا بمعايير ثابتة، استطعنا أن نعيد البوصلة الأخلاقية إلى اتجاهها الصّحيح قبل أن يستحكم التّطبيع ويفقد الخطأ اسمه، فتصان الفطرة، ويحمى المجتمع من اعتياد الظّلم، وتنجو الأمّة من تسويغ ما لا يسوّغ مع العدو أو مع أي صورة من صور العدوان.