الدستور
«يسألوننا عن القوانين، وهم أوّل من يدوسها حين تتعارض مع رغباتهم». غسان كنفاني، رواية «أم سعد».
في آخر تقرير لـ«مراسلون بلا حدود» لعام 2025، يحتلّ الأردن المرتبة 147 من أصل 180 دولة على مؤشر حرية الصحافة، متأخّراً بفارق شاسع عن إيطاليا التي تقبع في المرتبة 49. ومع هذا الترتيب، لم أُقِف، طوال سنوات متابعتي للشأن الإعلامي، على حالة واحدة لصحفي أُقيل أو جُرِّد من وظيفته لمجرد أنه طرح سؤالاً غير مريح. فإن كان في حوزة أحد ما يخالف هذا الاستقراء، فليُفدِني به.
في منتصف الشهر الماضي، وخلال مؤتمر صحفي عُقد في بروكسل، مقر الاتحاد الأوروبي، حول الحرب الروسية-الأوكرانية، طرح الصحفي الإيطالي غابرييلي نونزياتي، مراسل وكالة الأنباء الإيطالية «نوفا»، سؤالًا بسيطًا ومباشرًا على المتحدثة باسم المفوضية الأوروبية، قال فيه: «تصرّحون بأن على روسيا أن تتحمل تكاليف إعادة إعمار أوكرانيا... فهل ترون أن على إسرائيل تحمُّل تكاليف إعادة إعمار غزة؟»
خيّم على القاعة صمتٌ ثقيل امتدّ لثوانٍ طويلة. أخيرًا، رمشت المتحدثة، وارتسمت على وجهها ابتسامة مهذّبة، قبل أن تكتفي بالقول: «هذا سؤال مثير للاهتمام...» دون أن تضيف شيئًا، في حين ساد الأجواء توتر ملموس.
وبعد أسبوعين فحسب من تلك الواقعة، تلقّى الصحفي نونزياتي قرارًا من وكالة الأنباء التي يعمل لديها بإنهاء خدماته. أثارت هذه الخطوة ردود فعل واسعة في الأوساط الإعلامية، وتناولها العديد من الصحفيين عبر منصات التواصل الاجتماعي، ما دفع الوكالة إلى إصدار بيان توضيحي تبرّر فيه قرارها.
زعمت الوكالة في بيانها أن السؤال كان «خاطئًا من الناحية التقنية» و»خارج السياق»، مستندة إلى أن روسيا غزت دولة ذات سيادة دون مبرر مشروع، بينما كانت إسرائيل -بحسب تعبيرها- تردّ على هجوم، وأن السؤال تسبّب لها في حرج بالغ. كما نفت الوكالة تعرّضها لأي ضغوط خارجية لفصل صحفيها، مؤكدة أن الاتحاد الأوروبي لم يتدخل في القرار.
تكشف هذه الواقعة عن تناقض صارخ بين الخطاب الأوروبي حول حرية الرأي والممارسة الفعلية على أرض الواقع. فالمؤسسات الصحفية الأوروبية ترفع شعار «حرية الصحافة» وتقدّمها باعتبارها قيمة راسخة لا تُمس، لكن حين يطرح صحفي سؤالًا يتعلق بإسرائيل، سرعان ما تتوتر أعصاب المسؤولين، وتتوالى الاتصالات من وزارات الخارجية، لينتهي المطاف بالاستغناء عن ذلك الصحفي.
تحرص بروكسل على تقديم نفسها بوصفها «حارسة القيم الأوروبية» المكرّسة في المادة الثانية من معاهدة الاتحاد الأوروبي، والتي تعتبرها غير قابلة للتفاوض وملزمة لجميع الدول الأعضاء، ومن بينها: حرية الرأي، وحرية التعبير، وحرية الدين، وحرية الصحافة..
لقد طرح ذلك الصحفي سؤالًا بسيطًا حول ما إذا كانت إسرائيل ستتحمّل مسؤولية إعادة إعمار ما دمّرته، فجاء العقاب سريعًا وحاسمًا. فماذا لو تجرّأ وسأل عن مليارات الدولارات التي ضُخّت لإسرائيل لمواصلة عدوانها؟ أو عن التأييد الصريح الذي أبداه السياسيون الأوروبيون لتلك الحرب؟ أو عن سيل الأكاذيب التي رُوّجت دون حياء؟
إذن، ثمة معيار مزدوج لا يُعلن، لكنه يُمارس، حين تقصف روسيا محطة كهرباء في أوكرانيا، يُعتبر من حق الصحفي بل من واجبه أن يسأل عمّا إذا كانت روسيا ستتحمّل تكلفة إعادة بنائها. لكن إذا قصفت إسرائيل مئات المحطات والمدارس والمستشفيات فسؤالك «خارج السياق». يبقى سؤال الصحفي الإيطالي معلقًا في الهواء بلا إجابة: لماذا يجب على روسيا تحمّل مسؤولية ما دمّرته، بينما تُعفى إسرائيل من أي التزام تجاه ما خرّبته؟
وإلى أن تجد المتحدثة باسم الاتحاد الأوروبي إجابة منطقية ومتسقة على هذا السؤال، ستظل خطاباتها عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وكرامته وحرية التعبير مجرد شعارات جوفاء لا تصمد أمام الاختبار الحقيقي.
وبعد هذا كله، يطرح السؤال نفسه: أيكون من المنصف أن يُصنّف الأردن في موقع متأخر على مؤشر حرية الصحافة، في حين تتصدّر المراتب الأولى دول تفصل صحفييها لمجرد طرحهم أسئلة تتعلق بالكيان الصهيوني؟ أليست المفارقة صارخة حين نقارن بين صحفي أردني يطرح أسئلة جريئة دون أن يفقد عمله، وصحفي أوروبي يُطرد من وظيفته لمجرد سؤال محرج عن ازدواجية المعايير؟
ربما آن الأوان لإعادة النظر في معايير قياس حرية الصحافة، وأن تُقاس ليس بالشعارات والبيانات الرنانة، بل بالممارسة الفعلية على أرض الواقع، وبقدرة الصحفي على طرح الأسئلة الصعبة دون خوف من فقدان رزقه.