الغد
في الثامن من ديسمبر الحالي نشر البيت الأبيض وثيقة الإستراتيجية الأميركية للأمن القومي، خطة البيت الأبيض وفي المقدمة الرئيس ترامب تجاه العالم، تضمنت المبادئ العامة والأولويات التي سيتم التركيز عليها والمناطق التي ستكون ضمن النطاق الحيوي لعمل الإستراتيجية.
MAGA مغازلة
على المستوى الأميركي الداخلي، كشفت القضايا المحلية التي ناقشتها الاستراتيجية (الهجرة، كارتيلات المخدرات، أيديولوجيا النوع الاجتماعي الراديكالية، الحرية الاقتصادية للأفراد، إصلاح النظام الضريبي، السيطرة على الطاقة وسلاسل الإمداد، والاستثمار في التكنولوجيا) عن سعي واضح لإرضاء القاعدة الجماهيرية الاجتماعية – تحالف البيض/بروتستانت/الأنجلوساكسون– التي رفعت شعار: لنجعل أميركا عظيمة مجددا وقادته للفوز في الولاية الرئاسية الثانية.
حيث عزفت الإستراتيجية على أوتار قيمية وثقافية يتبناها هذا التحالف من خلال اعتماد تراكيب لغوية معينة واستعادة التاريخ الأميركي وتراثه، وأقتبس من الوثيقة: "نريد استعادة وتجديد الصحة الروحية والثقافية للولايات المتحدة، والتي لا يمكن من دونها تحقيق أمن طويل الأمد. نريد أميركا تعتز بأمجادها الماضية وأبطالها، وتطمح إلى عصر ذهبي جديد".
نريد شعبا فخورا وسعيدا ومتفائلا، مقتنعا بأنه سيترك للجيل القادم بلدا أفضل مما وجده. ونريد مواطنين لديهم وظائف مجزية، من دون أن يُترك أحد خلف الركب، ويستمدون الرضا من معرفة أن عملهم ضروري لازدهار أمتنا ورفاه الأفراد والعائلات. ولا يمكن تحقيق ذلك دون عدد متزايد من الأسر التقليدية القوية التي تربي أطفالا أصحاء. وتأتي هذه المغازلة في توقيت الاستعداد لانتخابات الحزب الجمهوري النصفية العام القادم ووسط تدنٍّ في شعبية ترامب وفي ظل تآكل اقتصادي فرضته حالات التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة، القضايا التي خاض بها ترامب برنامجه الانتخابي واستثمر فيها للدعاية المضادة ضد الديمقراطيين.
سياسة خارجية: شبكة مصالح لا أيديولوجيا
صاغت الإستراتيجية بوضوح السياسة الخارجية الأميركية بوصفها سياسة لا تقوم على أيديولوجيا سياسية تقليدية، بل مصالح أمريكا قبل كل شيء وبعبارة "أميركا أولا".
تكشف السياسة الخارجية الأميركية الجديدة التي تضمنتها الإستراتيجية عن تطورات لافتة وتصورات حساسة لمستقبل العالم وموازين القوى فيه.
أولا: التركيز على نصف الكرة الأرضية الغربي واستدعاء مبدأ مونرو، والذي ينص على أن الأميركيتين الشمالية والجنوبية وأوروبا الغربية وأجزاء من إفريقيا وآسيا هي تحت سيطرة الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما يفسر عودة أميركا لغرب آسيا بقوة منذ عامين، والتصعيد العسكري والاقتصادي في جزر الكاريبي.
ما يستدعي تساؤلا: هل تنازلت أميركا في عهد ترامب عن سيادة العالم والقبول بنصف الكرة الأرضية الغربي فقط؟ الإجابة في تفاصيل الإستراتيجية وأقتبس: "تماما كما ترفض الولايات المتحدة فكرة الهيمنة العالمية لنفسها، يجب أن نمنع الهيمنة العالمية، وأحيانا حتى الإقليمية لدول أخرى".
ثانيا: على الرغم من أن الإستراتيجية تحدثت عن الثقافة الأوروبية الغربية العظيمة، فإنها عكست رفضا أميركيا للمسار الأوروبي الحالي، لا سيما فيما يتعلق بالموقف من الحرب الروسية الأوكرانية، ما يمهد الطريق أمام انفكاك تدريجي في التحالف الإستراتيجي الأميركي الأوروبي وتغير جذري في خريطة التحالفات على مستوى العالم.
ثالثا: تهيئة مسرح جيواستراتيجي لمواجهة التوسع والصعود الصيني، باعتبار منطقة المحيطين الهندي والهادئ التي تمثل نصف الناتج المحلي الإجمالي، ساحة مواجهة رئيسة اقتصاديا وجيوسياسيا في السنوات المقبلة، وقد تتركز سياسة واشنطن في مواجهة بكين في هذا السياق على مبدأ قطع أذرعها الإستراتيجية، وتحييد موسكو واحتوائها في المستوى الإقليمي، ووضع طهران في حالة شلل تام اقتصاديا وعسكريا.
ما يمكن فهمه من إستراتيجية الأمن القومي الأميركي هو أن سياسة عالمية تتبلور بهدوء تسعى من خلالها أميركا للحفاظ على النظام الدولي القائم على القواعد، لكن بأدوات وأساليب مختلفة، يكون فيها الاقتصاد هو الرهان الحاسم في أي حرب مقبلة، والسلام لا يمر إلا عبر القوة.