عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    29-Jun-2025

القنبلة الإيرانية: "إذا" أم "متى"..؟!*علاء الدين أبو زينة

 الغد

وفق وزير الدفاع الأميركي الأسبق، ويليام بيري، فإنك عندما تهاجِم البنية التحتية الأساسية لدولة من دون استفزاز، فإنك لا تضعف عزيمتها، وإنما توقظ أسوأ مخاوفها. ولا بد أن يكون الهجوم الكثيف الذي شنه الكيان والولايات المتحدة قد أيقظ أكثر مخاوف الإيرانيين رسوخًا: لن تكون إيران آمنة على الإطلاق في منطقة تشكلها مصالح أميركا والكيان، ما لم تمتلك الرادع النهائي.
 
 
شن الكيان وحليفه الأميركي حربهما العنيفة التي تم التحضير لها منذ وقت طويل، بأهداف عالية تبدأ من القضاء المبرم على المشروع النووي الإيراني وتذهب إلى حد تغيير النظام. لكنّ ما أنجزه الهجوم ما يزال موضع شك. وربما تكون الضربة التي لا تقتل تقوي فحسب. وقد احتفل الأميركان والكيان بانتصارهما التكتيكي، لكنّ هجومهما الاستباقي ربما يسرّع– من حيث لم يحتسبا– بدل أن يردع مساعي طهران إلى امتلاك قنبلتها. ويقترح المنطق، وفق معظم المتغيرات، أن حيازة إيران قنبلتها لم تعد احتمالًا نظريًا، ويغلب أنها أصبحت مسألة وقت، لا أكثر.
 
يمكن إسناد هذا التقييم إلى مجموعة تقاطعات– إستراتيجية، وسياسية، ونفسية، وتاريخية– كلها تُرجّح أن القيادة الإيرانية ربما تكون قد عبرت عتبة حرجة في حساباتها النووية. على مدى أكثر من عقدين، حافظت إيران على توازن دقيق بين القدرة النووية والتسلح النووي. وأصرت خلال كل هذا الوقت على أن برنامجها سلمي، وقبلت بعمليات التفتيش، ووقّعت على معاهدات أهمها «معاهدة عدم الانتشار النووي». وحتى في ذروة تخصيبها لليورانيوم، تجنبت إيران التخصيب إلى درجة تصنيع الأسلحة أو صناعة الرؤوس الحربية التي تحملها، حتى لا تستدعي هذه الخطوات رد فعل دولي عنيف -وربما عدوانًا عسكريًا.
كما يبدو، كان هذا الموقف متجذرًا في إستراتيجية مزدوجة: الاستفادة من القيمة الردعية للقدرة النووية الكامنة، وفي الوقت نفسه تتجنب دفع الكلف الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية التي يرتبها تحولها إلى قوة نووية فعلية. وكانت هذه الإستراتيجية صالحة طالما اعتقدت إيران أن انضباطها النووي سيكافأ، وأن انخراطها العالمي ممكن، وأن أمنها القومي يمكن تأمينه بلا قنبلة.
نسف الهجوم الأخير هذه الافتراضات. كانت الهجمات الجوية المشتركة التي استهدفت منشآتها النووية غير مسبوقة في كثافتها ونطاقها. لكنّ كثيرًا من التقديرات تفيد بأن الحملة فشلت في تحقيق ما يسميه المخططون العسكريون «القطع الإستراتيجي للرأس». لم تدمر الغارات البنية النووية بالكامل، ولم تُسقط النظام الإيراني، ولم تتمكن من القضاء على قيادته. وفوق ذلك، أكّدت الهجمات للقيادة الإيرانية أن الغموض النووي لم يعد كافيًا للحماية. كان الدرس الذي قدمه الهجوم العنيف واضحًا: ضبط النفس يغري الآخرين بالهجوم؛ والرادع الحقيقي وحده هو الكفيل بالردع.
ليس هذا اكتشافًا جديدًا في السياسة العالمية. لطالما أكدت الخبرة التاريخية على أن الدول غير النووية تكون مكشوفة أمام الغزو، بينما تتمتع الدول النووية بحصانة من العدوان كمسألة أمر واقع. كان العراق قد جُرد من مشروعه النووي قبل وقت طويل من غزوه في العام 2003. وعندما تخلت ليبيا تخلّت طواعية عن برنامجها النووي تم تدميرها لاحقًا بلا رحمة. وسلمت أوكرانيا ترسانتها بعد الحرب الباردة، فاجتاحتها روسيا. وفي المقابل، احتفظت كوريا الشمالية بسلاحها وجعلها ذلك، على الرغم من الاستفزازات، سليمة لم تُمس.
تعلّم صانعو القرار الإيرانيون هذا الدرس، بالطريقة الصعبة ومن تجربتهم الخاصة: وافق بلدهم على الدخول في «خطة العمل الشاملة المشتركة» في العام 2015، التي اعتُبرت صفقة نووية اسثنائية، وكانت واشنطن، وليس طهران، هي التي انتهكت الاتفاق بالانسحاب منه من طرف واحد في عهد ترامب في العام 2018. وقد دمر ذلك الانسحاب ثقة إيران بالوعود الغربية وفضح هشاشة الدبلوماسية حين لا تدعمها القوة الصلبة.
ثم جاء الهجوم الأخير ليقوض أي ثقة قد تكون متبقية. والآن، لا يقتصر الأمر على امتلاك إيران القدرة التقنية لصنع القنبلة، بل لديها الآن التبرير السياسي والتفويض الشعبي للمضي نحو امتلاكها. الآن، يستطيع القادة الإيرانيون تأطير القنبلة، لا كسلاح هجومي، وإنما كحتمية دفاعية بعد عدوان صريح ومباشر. ويجري تداول هذه الأطروحة الآن بقوة، خاصة بعد رؤية البنية التحتية المدنية تُستهدف والأرض الإيرانية تنتهكها قوى أجنبية.
على المستوى الإقليمي، يتحول المشهد الإستراتيجي. لا شك في امتلاك الكيان قدرة نووية عسكرية، ولو أنه ينكر ذلك. وتمتلك الباكستان، الدولة الإسلامية الأخرى، أسلحتها الخاصة. وتبدأ بعض الدول الإقليمية برامجها النووية الخاصة، وتلمح –علنًا في بعض الأحيان- إلى نيتها حيازة الأسلحة إذا أصبحت إيران نووية.  وفي بيئة كهذه، سوف يتعدى الانضباط الإيراني عدم إمكانية الدفاع عنه سياسيًا، ليكون انتحارًا إستراتيجيًا.
كما أن النظام الدولي يتغير أيضًا. ثمة الكثير من الحديث عن أن حقبة الهيمنة الأميركية الأحادية تصل إلى نهاية، بينما تصبح روسيا والصين أكثر حضورًا ويعرب الجنوب العالمي عن شكوك متزايدة في أحقية الهيمنة الغربية. ولا يخفى أن طهران تتمتع بشراكات مع موسكو وبكين. ويمكن افتراض أنها ستتلقى، في حال قررت المضي إلى تسليح برنامجها، دعمًا تقنيًا كافيًا –أو غطاءً دبلوماسيًا على الأقل.
على الصعيد النفسي، أوصل الهجوم المزدوج شعور الإيرانيين بالخذلان والظلم إلى كتلة حرجة. المعتدلون، الذين دافعوا عن الانخراط مع المجتمع الدولي، ذهبوا الآن إلى الهوامش. والمحافظون الذين يرون الغرب مخادعًا بطريقة عصية على الإصلاح أصبحوا يهيمنون الآن، بلا منافس، على صناعة القرار. وفي هكذا مناخ، يصبح السعي إلى القنبلة أكثر من إستراتيجية– يصبح أيديولوجية.
هل تختبر إيران قنبلتها غدًا؟ ليس بالضرورة. ربما ما تزال طهران تفضل الاحتفاظ بنوع من «الغموض النووي»، حيث تبني القبلة، لكنها لا تختبرها ولا تعلن عنها– مثل نموذج الكيان. لكن ثمة أسبابًا للاعتقاد بأن العتبة تم عبورها، والخطوط الحمراء التي صمدت سابقًا تم محوها. قد تكون العقبات التقنية ما تزال حاضرة، لكن الإرادة السياسية يغلب أن تكون قد حضرت الآن أيضًا.