عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    10-Jan-2020

الأزمات الإسلامية الراهنة - السيد ولد أباه
 
الدستور- كتب الفيلسوف الفرنسي المعروف «أوليفيه أبل» ورجل الدين المسيحي «ستيفان لافينيوت» في صحيفة «ليموند» داعين إلى العودة إلى اللاهوت لفهم أوضاع العالم الراهن التي لم تعد قابلة للفهم بمنطق الدراسات الاستراتيجية والتحليل السياسي. مقال الكاتبين الفرنسيين انطلق بوضوح من التحدي المتزايد الذي تمثله «دولة داعش» على السلم العالمي والإقليمي، وما تطرحه من أسئلة جوهرية على الوعي الإسلامي، وإن كان حرص كاتبي المقال جلياً وواضحاً على رفض أطروحة «الاستثناء الإسلامي» السائدة حالياً في الأدبيات الغربية، معتبرين أن عموم علماء الإسلام ومفكريه وقفوا بصلابة ضد موجة التطرف وإلارهاب من منطلقاتهم العقدية والدينية.
بيد أن الملاحظة الأهم في المقال هي التنبيه إلى ضرورة إعادة الاعتبار للمباحث اللاهوتية التي تُنعت في الخطاب الدارج بالتعصب والانغلاق والضحالة المعرفية، مع أن هذه المباحث هي كما يقول الفيلسوف الألماني «والتر بنيامين» الخلفية العميقة لأهم رهانات الفكر والأيديولوجيا والتاريخ في المجتمعات الغربية الحديثة.
وكما يبين الكاتبان، تدفع المجتمعات الغربية الحالية ثمن أساطير ثلاث حولتها إلى مقدسات صلبة هي الإيمان بحتمية انحسار الرأسمال (مما منع ضبط الحركة المالية التي أصبحت خارج نطاق التحكم) وانحسار الدولة (مما برر أكثر الأنظمة استبداداً وحال دون تعقل الفعل السياسي) وانحسار الدين (الذي حال دون فهم ظواهر عودة الدين للمجال العمومي والأضواء).
وهكذا باسم النظم العلمانية في الغرب أقصي المبحث اللاهوتي من حقل الدراسة تجنباً للتعصب والانغلاق، في حين أن اللاهوت يمثل التقليد التأويلي والنقدي في الحقل الديني، وهو الذي يفتح أفق النقاش والحوار، ويظهر الطابع الاختلافي الحركي الحي في فهم الدين وممارسته. ويُخلص المقال إلى أن بعض مفكري الإسلام نبهوا إلى أن ضعف الاهتمام باللاهوت في الأوساط التعليمية والثقافية من الأسباب الرئيسية لنمو التطرف الديني والعنف المسلح.
أهمية مقال «أبل» و«لافينيوت» تكمن في أنه تجاوز ما ألمحت إليه العديد من الدراسات الاستراتيجية الأخيرة من أهمية العامل الديني في أزمات النظام الدولي الحالي وفي العلاقات الدولية الجديدة، موجهاً النظر إلى المبحث اللاهوتي الذي يعنى بمتعلقات العقيدة والمنظور الميتافيزيقي وأبعاد تأويلية النص الديني. ومع أن التقليد الإسلامي لا يحتوي مبحثاً لاهوتياً بالمعنى الدقيق للعبارة، لأنه يفتقد إلى سلطة تقنن الاعتقاد وتحدد مضمون العقيدة الرسمية للدين (باستثناء بعض المحاولات الاعتزالية والسلفية المحدودة)، إلا إن له تراثاً كلامياً غزيراً وغنياً ضعف بالفعل الاهتمام به ولم يعد له حضور قوي حتى في أعرق مراكز الإشعاع العلمي السُنية، حيث وجدت عند شيخ الأزهر الحالي الشيخ أحمد الطيب وعياً حاداً بهذا القصور وسعياً قوياً لبعث الدراسات الأشعرية من سباتها).
ومن المعروف أن جماعات الإسلام السياسي و«السلفيات المتطرفة»، تلتقي في النفور من المباحث الكلامية التي تعتبرها « لغواً فلسفياً» يضعف العقيدة و«ترفاً فكرياً» يشغل الأمة عن قضاياها الحيوية، وفي مقابلها تقدم مادة دينية معلبة تقنن «المعتقد المشروع»، وتقصي إلغاءً وتكفيراً المخالف في الرأي، مما هو داخل فعلاً في منطق التطرف الديني المسلح.
هل يمكن أن يساهم المبحث الكلامي «اللاهوتي» في محاربة التطرف الديني وتقديم البديل عنه؟
يحتاج السؤال إلى جواب رصين ومقنع لا يبدو أنه متوفر إلى حد الآن، بل إن الاهتمام بالإشكالية نفسها مفقود نتيجة لضعف حضور - بل غياب - الموضوع الكلامي في التحليلات السياسية والاستراتيجية الراهنة.
وبدون إدعاء تقديم الرد الفصل على هذا الإشكال، نكتفي بالإشارة إلى ملاحظتين أساسيتين، نعتقد أنهما تقدمان بعض عناصر الجواب المطلوب: أولاهما: أن المبحث الكلامي يكرس في الحقل الإسلامي تقليداً حوارياً منفتحاً ضرورياً، وذلك هو الدور الذي اضطلع به تاريخياً وقابل اليوم لتأديته وفق الحقائق والرهانات القائمة. فمن الجلي من خلال تعريفات وتحديدات المتكلمين الأوائل أنفسهم أن المنهج الكلامي هو صناعة حوارية تقوم على المناظرة والجدل، وتستدعي الدليل العقلي المفتوح (تسمية علم الكلام نفسها تُفهم بهذا المعنى، وليس بالنظر لمحورية مسألة الكلام الإلهي أي موضوع خلق القرآن في هذا العلم).
ومن هنا ندرك اختلاف المتكلمين الواسع في المنحيين اللذين شغلاهم أي الإلهيات (جليل الكلام)، والطبيعيات (دقيق الكلام). وبغض النظر عن الحيز الظرفي لهذه النقاشات، فإن النتيجة الأساسية منها أنها فتحت أهم وأدق موضوعات الاعتقاد للجدل العقلي، مما يؤسس لنزعة نقدية منفتحة ومتسامحة، هي اليوم ضرورة قصوى في مواجهة موجة التطرف الديني.
ثانية الملاحظتين: أن الإشكالات السياسية امتزجت بالموضوعات العقدية منذ عصور الإسلام الأولى، بل إن الاهتمامات الكلامية الأولى عكست صراع الفرق الإسلامية في رهانات أيديولوجية وسياسية تمحورت حول موضوع الإمامة الذي يعود اليوم إلى واجهة الاهتمام في الساحة الإسلامية من خلال شعار «دولة الخلافة»، الذي تبنته حركة «داعش»، ولا شك أن الدرس الكلامي الكلاسيكي كما بلوره أهل السُنة والجماعة ضروري للتذكير بما يقوم عليه من مبدأ فصل مبحث الإمامة عن موضوعات الاعتقاد، واعتباره من الظنيات الاجتهادية وداخل في مصالح الجماعة وشؤونها التدبيرية. وإذا كانت مقولات العقل السياسي الحديث - كما يقول كارل شميت - هي في أساسها مقولات لاهوتية متلبسة بما فيها المفاهيم التي يتأسس عليها الفكر الليبرالي (كالسيادة والتمثيل..)، فإن خطاب الإسلام السياسي يتغذى من «متخيل لاهوتي» هو المحدد في التصور الأيديولوجي للدين وفي تحويل الإمامة الشرعية من نموذج أخلاقي وروحي إلى دولة مجسدة للدين هي من هذا المنظور جوهر دعوة الدين، على الرغم من كل الاحترازات اللفظية المألوفة.
قد لا يكون علم الكلام هو المفتاح الجاهز لفهم أزمات منطقتنا والبديل الفكري عن خطاب التشدد والتطرف الذي حرق البلاد والعباد، لكن الرجوع إليه مفيد في إبراز السمات النقدية العقلانية في التقليد الإسلامي التي تحتاج اليوم إلى تطوير مفهومي وصياغات منهجية وتصورية جديدة.