عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    06-Apr-2025

البيريسترويكا الأمريكية*إسماعيل الشريف

 الدستور

«عندما بدأنا البيريسترويكا، لم نتمكن من تقييم وتوقّع كل شيء بشكل صحيح، تبيّن أن مجتمعنا كان من الصعب تحريكه، ولم يكن مستعدًّا للتغييرات الكبيرة التي تؤثّر على مصالح الناس الحيوية وتدفعهم إلى التخلي عمّا اعتادوا عليه لسنوات طويلة». غورباتشوف، آخر رئيس للاتحاد السوفييتي.
أعلن الرئيس الأمريكي ضمن استراتيجية «أمريكا أولًا» التي يتبناها، تطبيق سلسلة من التعريفات الجمركية المشددة. يحمل هذا التوجه في طياته مخاطر تصعيد قد تُفضي إلى أزمة عالمية غير مسبوقة؛ حيث تشير التوقعات إلى انعكاسات سلبية متعددة تتمثل في تراجع حركة التجارة العالمية، وتسارع معدلات التضخم، وانحسار تدفقات الاستثمار. الأكثر إثارة للقلق هو ما ستعانيه الدول النامية التي تواجه أصلاً تحديات اقتصادية وأزمات متعددة، إضافة إلى الاضطرابات المتوقعة في سلاسل الإمداد والتوريد العالمية.
يرسم الرئيس صورة وردية متفائلة بشأن انعكاسات هذه السياسة على المستقبل الاقتصادي للولايات المتحدة، مؤكدًا أنها ستعزز القطاعات الصناعية المحلية وتقلص الفجوة في الميزان التجاري. غير أن هذه الرؤية تغفل التداعيات السلبية المحتملة، كالزيادة الملموسة في أسعار السلع للمستهلك الأمريكي وارتفاع تكاليف العمليات الإنتاجية، خاصة في ظل الاعتماد الكبير للصناعات الأمريكية على المدخلات والمواد الخام المستوردة. كما أن هذه التوجهات قد تؤدي إلى تباطؤ في النمو الاقتصادي وتحفز الشركاء التجاريين للولايات المتحدة على اتخاذ تدابير مضادة. ورغم الفوائد المحتملة لبعض القطاعات الصناعية الثقيلة من حيث تعزيز قدرتها التنافسية، إلا أن المشهد يبقى بالغ التعقيد في ضوء حالة الانقسام السياسي العميق داخل الولايات المتحدة، والظروف الاقتصادية المتقلبة، وتلميح الرئيس إلى إمكانية الترشح مجددًا على الرغم من الإشكاليات القانونية المحتملة. في خضم هذه المعطيات المتداخلة، يصعب استشراف المسار المستقبلي للأحداث في الساحة الأمريكية.
كان من نصيب الأردن موجة من الإجراءات الاقتصادية المشددة تمثلت في فرض رسوم جمركية بنسبة 20% على مجمل صادراته إلى السوق الأمريكية، حيث تم تخصيص الأردن برسوم جمركية إضافية بنسبة 10% فوق الرسوم العامة المطبقة على سائر الدول والبالغة 10%، وتشير التوقعات إلى أن هذه السياسة ستلقي بظلالها السلبية على قطاعات إنتاجية متعددة، وعلى رأسها قطاع الملابس الذي تشكل مبيعاته للولايات المتحدة ما يزيد عن نصف إجمالي الصادرات الأردنية إلى السوق الأمريكية، والتي تقدر بحوالي 2.9 مليار دولار. من المحتمل أن تؤدي هذه الإجراءات إلى انخفاض ملموس في عائدات التصدير وتراجع في تدفقات العملات الأجنبية الواردة إلى المملكة، مما سيفاقم مشكلة البطالة، بالإضافة إلى تأثيرات متتالية على صناعات وخدمات أخرى مرتبطة بالقطاع التصديري. وفي حال قررت الأردن تبني سياسة المعاملة بالمثل عبر زيادة الرسوم على الواردات الأمريكية، فإن ذلك سيُفضي حتمًا إلى تضخم الأسعار في السوق المحلية وإبطاء وتيرة النمو الاقتصادي. يضاف إلى هذا المشهد تأثر الدول ذات الثروات في المنطقة نتيجة فرض تعريفات على صادراتها واستثماراتها في السوق الأمريكية، والانخفاض المتوقع في الطلب العالمي على النفط جراء التباطؤ الاقتصادي، مما سينعكس حتمًا على حجم الدعم والمنح المقدمة للأردن.
يتفاقم المشهد الاقتصادي الأردني سوءًا مع تقلص المساعدات الاقتصادية الأمريكية التي كانت تصل إلى 1.72 مليار دولار، وذلك في أعقاب قرار إنهاء عمليات الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) ودمجها ضمن هيكلية وزارة الخارجية الأمريكية، مما أسفر عن خسارة القسم الأكبر من المساعدات الاقتصادية التي كانت تقدمها الوكالة والمقدرة بنحو 770 مليون دولار، مع الإبقاء فقط على المساعدات العسكرية. من المرجح أن تنعكس هذه التخفيضات بشكل مباشر وعميق على قطاعات استراتيجية وحيوية داخل الأردن، لا سيما قطاعات التعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية وإدارة الموارد المائية التي تُمثل تحديًا وجوديًّا للمملكة.
رغم الظروف الراهنة، فإنني أحمل نظرة تفاؤلية مدروسة. يتعيّن على الأردن المبادرة بمراجعة استراتيجية لاتفاقية التجارة الحرة المبرمة مع الولايات المتحدة، والسعي الحثيث لتحقيق إعفاء شامل من هذه الرسوم الجمركية، أو على الأقل استصدار استثناءات للقطاعات الحيوية ذات الأهمية الاستراتيجية، وعلى رأسها قطاع النسيج والملابس. وكما أثبت الأردن كفاءته سابقًا في تعويض التراجع في المساعدات الأمريكية من خلال بناء شراكات استراتيجية مع الاتحاد الأوروبي، فإن لدي قناعة راسخة بقدرته على حماية قطاعاته التصديرية الرئيسية من خلال استكشاف آفاق جديدة للتعاون الاقتصادي مع شركاء دوليين متنوعين، لا سيما الدول الأوروبية. ومما لا شك فيه أن مثل هذه التحديات ستشكل حافزًا جوهريًّا لتعزيز الاعتماد على الذات، ودافعًا قويًّا نحو بناء منظومة اقتصادية أكثر استقلالية واستدامة على المدى البعيد.
يتمثل التهديد الأكثر خطورة في الأفق في الإشارات المتزايدة حول خطط أمريكية لتخفيض قيمة الدولار، الذي شهد بالفعل انخفاضًا بنسبة 4% منذ بدء الرئيس الأمريكي بتطبيق سياسة التعريفات الجمركية المتشددة. تستهدف هذه الاستراتيجية تحسين الوضع التنافسي للصادرات الأمريكية وتقليص العجز في الميزان التجاري، غير أنها قد تفضي إلى تدهور غير محسوب في قيمة الدولار، بل وربما تهدد مكانته المحورية كعملة احتياط عالمية أساسية. أمام هذا السيناريو، أرى ضرورة ملحة لاتخاذ إجراءات استباقية عبر تنويع سلة الاحتياطيات من العملات الأجنبية، وزيادة المخزون من المعادن النفيسة، مستندين إلى سياسات البنك المركزي الأردني التي تميزت على الدوام بالرصانة والحصافة في التعامل مع الأزمات الاقتصادية العالمية.
تستدعي توجهات الرئيس الأمريكي الحالية مقارنة تاريخية مع سياسات ميخائيل غورباتشوف، آخر قادة الاتحاد السوفييتي، الذي أطلق برنامج «البيريسترويكا» الإصلاحي بهدف إعادة هيكلة الاتحاد السوفييتي، وتفكيك نموذج الاقتصاد المركزي، وإدماج آليات اقتصاد السوق. لكن تلك المبادرات أفضت في المحصلة النهائية إلى انهيار منظومة الثقة لدى الحلفاء، وتدهور قيمة الروبل، وتسارع وتيرة الانهيار، قبل أن ينتهي المطاف بتفكك الاتحاد السوفييتي ذاته. اليوم، يبدو أن الرئيس الأمريكي يقدم نسخته المعاصرة من تجربة البيريسترويكا تحت مظلة «أمريكا أولًا»، طامحًا إلى استعادة السيطرة الاقتصادية الأمريكية، لكنه في الوقت ذاته يخاطر بتقويض أركان النظام الاقتصادي العالمي الذي أسسته الولايات المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية. والسؤال الجوهري الذي يفرض نفسه بإلحاح: هل ستُفضي هذه السياسات إلى تعزيز مكانة الولايات المتحدة واستعادة هيمنتها، أم ستكون العامل المسرّع في مسار تراجعها؟