عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    24-Mar-2023

عن مأساة القراءة بعيون الآخرين

 الدستور-غسان إسماعيل عبد الخالق

في أواخر كل عام من أعوام عديدة مضت، اعتاد المثقفون على أن يطالعوا في الصفحات الثقافية، عنوانا ألِفوه وملّوه وفحواه (أفضل عشرة كتب صدرت هذا العام)! ومع أن معظم المشاركين في تلك الاستطلاعات كانوا كتّابا مرموقين، إلا أن مصداقيتها ظلت تتراجع حتى كادت تختفي، لا لسبب إلا لأن المشاركين فيها اعتادوا أن يعدّدوا ما يعتقدون أنه متوقع منهم وليس ما يعتقدون فعلا أنه يستحق أن يُعدّد! ولو قيّض لك أن تسافر إلى روما مثلا، وسئلت بعد عودتك منها : كيف رأيت روما ؟ فسوف تُلْفي نفسك رهين إجابتين لا ثالث لهما؛ إجابة أولى يجسدها اندفاعك لاستعادة كل ما سمعت وما قرأت وما عرفت عن روما واستطرادك في إعادة إنتاجه كي تثبت لمن سألك أنك رأيت روما فعلا! وإجابة ثانية يجسدها اندفاعك لسرد ملاحظاتك ومشاهداتك الخاصة التي قد تنقض الصورة العامة المرسخة في أذهان المسافرين إلى روما وقد تدفع من يستمع كلامك إلى الشك في إمكانية قيامك بزيارة روما في أحسن الأحوال!
إن الإجابة الأولى التي يسارع معظمنا للإدلاء بها بخصوص كثير من المدن والموضوعات والقضايا، تلخص خوفنا من إمكانية اتهامنا بالقصور عن الفهم والتذوق المطلوب، فنضطر إلى الانخراط في ترسيخ الانطباع العام، حماية لأنفسنا من الاستبعاد. وأما الإجابة الثانية _ وإن جرّت علينا كثيرا من سوء الفهم والحصار أحيانا _ فهي التي طالما غيّرت مجرى التاريخ والحياة والأفكار والمفاهيم؛ بدءا بأرسطو الذي تخلّص مبكّرا من سحر جمهورية أستاذه أفلاطون وأمدّنا بمفهومي التطهير والتخييل في الفن والأدب... مرورا بماركس الذي لم يُطِل المكوث في محراب هيجل وقلب لنا جدله المثالي رأسا على عقب... وليس انتهاء بيونغ الذي لم يتردّد في قطع حبل السرّة الذي يربطه بفرويد وأهدانا مفهوم اللاوعي الجمعي بديلا عن مقولة الكبت الجنسي.
ومع أن الأمثلة التي تؤكد أهمية الفائض المعرفي المترتب على تجاوز السائد والمألوف والمتداول، أكثر من أن تُعد، إلا أن مشهدنا الثقافي العربي تحديدا، ما زال يفتقر إلى تقبّل مفهوم التجاوز الجدلي الخلاّق، وما زال يسبّح بحمد كثير من الثوابت الثقافية العربية وغير العربية عَلَنا، وينهال عليها بالثلم والتهوين والتقبيح سرا! ووفقا لهذه المفارقة المضحكة المُبْكية، غدا الإرث الأدبي أو الفكري الخاص بعدد من الكتّاب العرب والأجانب، مناطق محرّمة لا يجوز المساس بها. ولو أن هذا التحريم جاء نتاج الإلمام الحقيقي بإرث هذا الكاتب أو ذاك لهان الأمر، ولكنه في الغالب الأعم جاء حصيلة الانزلاق السريع على سطح هذا الإرث ومحصلةً لعدد من المحفوظات والانطباعات والثرثرات التي تتردد على ألسنة الآخرين.
لا تستغرب إذن، إذا أسرّ لك روائي عربي مرموق بأنه لم يستطع تجاوز خمسين صفحة من (مائة عام من العزلة) ثم لم يدّخر وسعا للثناء عليها في أول حوار أُجري معه. ولا تتعجب أيضا إذا أسرّ لك مفكّر عربي معدود بأن الأسلوب الصحفي يهيمن على (تكوين العقل العربي) ثم كال له المديح في أول ندوة عامة. ولا ترفع حاجبيك استنكارا كذلك إذا اعترف لك ناقد بارز بأنه لم يفهم (الثقافة والامبريالية) ثم أشبعه ثناءً في أول حلقة نقاشية. لا تستغرب ولا تتعجب ولا تستنكر، ما دام أن معظم المثقفين يتسابقون لاقتناء(الخيميائي) و (قواعد العشق الأربعون) ولا يتورّعون عن الإشادة بهما علنا، مع أنهم أجهشوا بالبكاء سرا، لأنهم _ ببساطة _ لم يجدوا فيهما ما سمعوه عنهما!
هل يعني ما تقدّم أن مؤلّفي الأعمال المُشار إليها أعلاه كتّاب مزيّفون ؟ معاذ الله! فما تقدّم يعني أن بيننا كثيرا من المثقفين المزيّفين الذين يواظبون على إخفاء سطحيتهم عبر استعارة عيون غيرهم من المثقفين اللاّمعين حتى يتوهموا أنهم فعلا من قرأ وفهم واستنتج، ولن يدركوا قطعا أن لكل قارئ قراءته الخاصة التي يصعب تكرارها عبر قارئ آخر. وعلى الأرجح، فإن نوادي القراءة في أوروبا وأميركا، ما كانت لتنتشر وتترسخ، لولا أن الوعي الثقافي الجمعي هناك، قد بلغ مرحلة استيعاء أهمية المفرد بصيغة الجمع والجمع بصيغة المفرد؛ فآرنست همنغواي يمثّل جامعا لكل القرّاء المحترفين في أميركا، لكنه في الوقت نفسه، يعني لكل واحد منهم شيئا ما خاصا وشخصيا وغير قابل للتعميم!