الغد-تقرير خاص – (موقع قنطرة) 18/10/2021
في أول اعتراف فرنسي رسمي بالمسؤولية عن المذبحة التي جرت في العام 1961، ندد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالحملة الدموية التي شنتها الشرطة على المتظاهرين الجزائريين في باريس قبل 60 عاماً، ووصفها بأنها “جريمة لا تُغتفر بالنسبة للجمهورية”. في أقوى اعتراف من رئيس فرنسي بمذبحة ألقيت خلالها الكثير من الجثث في نهر السين.
وكانت فرنسا قد فرضت حظر التجول على ما يسمى بالفرنسيين المسلمين من الجزائر في نهاية حرب الجزائر، التي حاربت فيها “مستعمرة الجزائر الفرنسية” آنذاك من أجل استقلالها من العام 1954 إلى العام 1962.
في 17 تشرين الأول (أكتوبر) 1961، وبأوامر من قائد شرطة باريس آنذاك، موريس بابون، هاجمت الشرطة مظاهرة نظمها 25 ألف جزائري مؤيد لجبهة التحرير الوطني احتجاجاً على حظر التجول المفروض على الجزائريين. وقد سُحقت المظاهرات بشكل منهجي، وضربت الشرطة الفرنسية العشرات حتى الموت وأطلقت النار على آخرين. وعثر على بعض الجثث في وقت لاحق في نهر السين.
وقال مكتب ماكرون في رسالة صادرة عن قصر الإليزيه، إن المسيرة قُمعت “بعنف وبشكل وحشي ودموي”، مضيفاً أن نحو 12 ألف جزائري اعتُقلوا وأُصيب كثيرون وقُتل العشرات. وأضاف البيان أن فرنسا تعترف بمسؤوليتها القاطعة عن هذه الواقعة.
وبعد الظهر، حضر ماكرون مراسم لإحياء الذكرى الستين للواقعة في كولومب بالقرب من باريس، وأقيمت المراسم على ضفاف نهر السين بالقرب من جسر بيزون الذي سلكه المتظاهرون الجزائريون قبل 60 عاماً وقدموا من حي نانتير الفقير المجاور تلبية لدعوة فرع جبهة التحرير الوطني في فرنسا. ووفقاً للإليزيه، فإن هذا يجعل ماكرون أول رئيس فرنسي يحضر مثل هذه المراسم لإحياء الذكرى.
وبإشارته إلى حصول “جرائم”، ووقوفه دقيقة صمت وواضعا إكليلا من الزهور في المكان، يكون ماكرون قد اتخذ موقفا يتجاوز ما أقر به سلفه، فرنسوا هولاند، العام 2012 حين تحدث عن “قمع دامٍ”.
وأضاف البيان الرسمي للرئاسة الفرنسية “أن فرنسا تنظر إلى تاريخها برمته بتبصر وتقر بالمسؤوليات التي تم تحديدها بوضوح. وهي تدين بذلك لنفسها، أولاً وقبل كل شيء، ثم لجميع من أدمتهم حرب الجزائر وما واكبها من جرائم ارتكبت من كل الجهات، في أجسادهم وأرواحهم”.
وتحدث ماكرون، أول رئيس فرنسي ولد بعد حرب الجزائر التي انتهت العام 1962، إلى أقرباء الضحايا الذين بدوا متأثرين للغاية. وقالت الرئاسة الفرنسية “إن الآلاف اعتقلوا ونقلوا إلى مراكز فرز في ملعب كوبرتان وقصر الرياضات وأماكن أخرى. وإضافة إلى عدد كبير من الجرحى، قتل العشرات ورميت جثثهم في نهر السين. ولم تتمكن عائلات كثيرة من العثور على جثث أبنائها الذين اختفوا في تلك الليلة”.
وكان الإليزيه قد ذكر الجمعة 15 تشرين الأول (أكتوبر)، أن “رصاصاً حياً أُطلق في هذا المكان وتم انتشال جثث من نهر السين”، وذلك تبريراً لاختيار مكان إقامة المراسم. وأضاف أن الرئيس الفرنسي “يكرم ذكرى جميع ضحايا مأساة تم نكرانها وظللها الغموض لوقت طويل”. وحتى اليوم، ما يزال العدد الدقيق للضحايا غير معروف. وتشير بعض التقديرات إلى أن العدد يناهز 200 شخص، في حين اكتفت الحصيلة الرسمية بالإشارة إلى ثلاثة قتلى.
ومن جهته، دعا الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، يوم السبت 16 من الشهر الحالي، إلى معالجة ملفات الذاكرة مع فرنسا بعيدا عن “الفكر الاستعماري”، وذلك في رسالة للشعب الجزائري في الذكرى الستين لقتل متظاهرين جزائريين في 17 تشرين الأول (أكتوبر) 1961 في باريس.
وجاء في النص الذي نشرته الرئاسة الجزائرية: “هذه المناسبة تُتِيحُ لي تأكيد حرصنا الشديد على التعاطي مع ملفاتِ التاريخ والذاكرة، بعيدًا عن أي تراخٍ أو تنازل، وبروح المسؤولية (…) وفي منأى عن تأثيرات الأهواء وعن هيمنة الفكر الاستعماري الاستعلائي على لوبيات عاجزة عن التحرر من تطرفها المُزمن”.
وتابع: “ينبغي أن يكون واضحًا، وبصفة قطعية، أن الشعب الجزائري الأبي المُعتز بجذور الأمة، الضاربة في أعماق التاريخ، يمضي شامخًا، بعزم وتلاحم، إلى بناء جزائر سيدة قوية”.
واعتبر الرئيس الجزائري أن ما حدث في 17 تشرين الأول (أكتوبر) 1961 في باريس يعكس “وجهًا من الأوجه البشعة لسلسلة المجازر الشنيعة، والجرائم ضد الإنسانية التي تحتفظ بمآسيها ذاكرةُ الأمة”.
وكان الرئيس تبون قد أعلن في وقت سابق عن “ترسيم الوقوف، دقيقة صمت، كل عام، عبر كامل التراب الوطني، بدءا من الأحد، عند الساعة الحادية عشرة صباحا، ترحمًا على أرواح شهداء مجازر 17 تشرين الأول (أكتوبر) 1961، بباريس”، بحسب بيان للرئاسة.
وتحل هذه المناسبة في ظل أزمة بين الجزائر وفرنسا التي استعمرتها من 1830 إلى 1962، أدت إلى استدعاء السفير الجزائري في باريس في الثاني من تشرين الأول (أكتوبر) 2021. وجاء ذلك ردا على تصريحات للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نقلتها صحيفة لوموند، والتي اعتبر فيها أن الجزائر بنيت بعد استقلالها العام 1962 على “ريع للذاكرة” كرسه “النظام السياسي-العسكري”، وشكك في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي.
وفي 5 تشرين الأول (أكتوبر) 2021، أعرب ماكرون عن أمله في الوصول إلى “تهدئة”. وقال: “إنني أكنّ احتراما كبيرا للشعب الجزائري وأقيم علاقات ودية فعلا مع الرئيس تبون”.
ويوم السبت، حضر ماكرون كأول رئيس فرنسي مراسم إحياء ذكرى المجزرة التي يقدر المؤرخون عدد ضحاياها بما لا يقل عن العشرات، في حين اكتفت الحصيلة الرسمية بالإشارة إلى ثلاثة قتلى. وبحسب بيان للإليزيه، فإن رئيس الدولة أقر بالوقائع: “إن الجرائم التي ارتكبت تلك الليلة تحت سلطة موريس بابون (قائد شرطة باريس يومها) لا مبرر لها بالنسبة إلى الجمهورية”.
يؤكد رابح ساحيلي، أحد المشاركين في تظاهرة 17 تشرين الأول (أكتوبر) 1961 في باريس أن “وحشية رجال الشرطة والدرك كانت مروعة”، خلال روايته لوكالة “فرانس برس”، بحزن ذكرياته عن ذلك اليوم الذي قتل فيه عشرات الجزائريين في قمع وصفه الرئيس إيمانويل ماكرون بأنه “جرائم لا يمكن تبريرها”.
قبل ستين عاما كان أكثر من ثلاثين ألف جزائري يتظاهرون بشكل سلمي تلبية لدعوة فرع جبهة التحرير الوطني في فرنسا، بهدف التنديد بحظر التجول المفروض على الفرنسيين المسلمين (الجزائريين) حصرا من قبل قائد شرطة باريس، موريس بابون.
وفي المقابل، انتشر عشرة آلاف شرطي ودركي. وكان القمع دمويا، حيث قتل العديد من المتظاهرين بالرصاص وألقي ببعض الجثث في نهر السين. ويقدر المؤرخون عدد القتلى بالعشرات على الأقل أن لم يكن 200، بينما لا تتحدث الحصيلة الرسمية عن أكثر ثلاثة قتلى و11 ألف جريح. وأعلن الرئيس عبد المجيد تبون السبت عن “الوقوف دقيقة صمت كل عام، على كامل التراب الوطني بدءا من الأحد، عند الساعة الحادية عشرة صباحا، ترحمًا على أرواح شهداء مجازر 17 تشرين الأول (أكتوبر) 1961 بباريس”.
اعتقل رابح ساحيلي الذي كان قد وصل إلى باريس قبل أربعة أعوام من أومون (شمال) حيث استقر والداه في 1950 عندما وصلا من الجزائر، عند مدخل محطة المترو في ساحة النجمة في باريس. وكان قد بلغ للتو 19 عاما. ويروي: “كان علينا أن نجتمع في ساحة النجمة لبدء تظاهرتنا السلمية بأمر واحد: لا ينبغي أن يحمل المناضلون أي أداة حادة”.
وقد اختارت جبهة التحرير الوطني هذه الساحة الكبيرة كنقطة تجمع للمهاجرين القادمين من الضواحي حيث تقطن الطبقة العاملة في غرب باريس مثل جونفيليي وأسنيير وناتير. وخُطط لتظاهرات في أماكن أخرى في العاصمة الفرنسية.
وقال ساحيلي: “كنت مع أحد أقاربي عندما هاجمنا شرطيون. حاول حمايتي باعتباره أقوى مني، لكنه تلقى سيلا من الضربات بأعقاب المسدسات والهراوات، ما تسبب في كسر ساقه”.
وأضاف: “تم اعتقال جميع الجزائريين الخارجين من محطة المترو. كانت “اعتقالات بناء على السمات””، موضحا أن “إيطاليين وإسباناً وأميركيين جنوبيين” اعتقلوا، مشيرا إلى التعليمات التي أعطيت لرجال الدرك والشرطة بمهاجمة الفرنسيين المسلمين، وهي التسمية التي كانت تطلقها السلطات الاستعمارية على الجزائريين.
وتابع أنه تم نقلهم جميعا “تحت ضربات الهراوات” إلى موقف للسيارات بالقرب من ساحة النجمة. ورأى رابح ساحيلي “ما كان يجب أن نسقط تحت وابل ضربات أعقاب المسدسات على الرؤوس. كانت الضربات وحشية، لا أكثر ولا أقل”.
وتابع: “كان موقف السيارات مزدحما. في منتصف الليل تم نقلنا بالحافلة إلى قصر الرياضة حيث مكثنا لمدة ثلاثة أيام تحت مراقبة الشرطة وحركيين”، جزائريون في الجيش الفرنسي. وأكد أنه خلال أيام الرعب هذه، لم يتلقّ الموقوفون “التسعة آلاف” في قصر الرياضة سوى “وجبة طعام خفيفة وقارورة ماء”، قبل أن تنقلهم الشرطة إلى “مركز الفرز في فانسان”، بحسب ساحيلي.
وأضاف ساحيلي في شهادته: “كان هذا المعسكر خاليا من جميع وسائل الراحة: لا أسرّة ولا مراحيض. نمنا على الأرض في البرد القارس”، موضحاً: “مكثت هناك لمدة أسبوعين قبل أن يُسمح لي بالعودة إلى المنزل”.
وتابع: “خلال الاعتقالات، رأيت نحو عشرين شخصا ينزفون دما على الأرض بالقرب من ساحة النجمة. كان عدد رجال الشرطة كبيرا جدا ويتصرفون مثل الوحوش الشرسة”.
وقال هذا العضو السابق في شبكات جبهة التحرير الوطني المسؤولة عن جمع التبرعات من المهاجرين، آسفا أن “الشرطة ألقت بجزائريين، بعضهم أحياء، في نهر السين، لكننا لن نعرف العدد الدقيق للجثث التي ابتلعها هذا النهر”. وأشار إلى أنه حتى قبل 17 تشرين الأول (أكتوبر)، قضى عدد كبير من المناضلين الجزائريين “في مياه نهر السين” خلال حملات للشرطة.
ويذكر الرجل أنه شارك “في إنقاذ ناشط شاب في اللحظة الأخيرة بعدما ألقت به الشرطة في نهر السين بالقرب من محطة توليد الكهرباء في ميناء جونفيليي”. وأضاف أن الشاب اعتبر ميتا لأنه “كان قد تعرض لإصابات عديدة عندما تمكنا من إخراجه، لكنه نجا لأنه كان شابًا وقويًا”.
بعد الاستقلال في 1962، بقي رابح ساحيلي في فرنسا لمدة عامين قبل أن يعود إلى بلاده حيث عمل مع شركة الخطوط الجوية الجزائرية.