عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    17-Aug-2025

جهاد الأندلسيين الموريسكيين البحري

 الدستور-أ. د. محمد عبده الحتاملة

 
بعد سقوط غرناطة عام 1492م، آخر معقل من معاقل المسلمين في الأندلس، واجه المسلمون الذين بقوا في شبه الجزيرة الإيبيرية مرحلة جديدة من الاضطهاد والقهر والتذويب الثقافي والديني. عُرف هؤلاء المسلمون لاحقًا باسم «الموريسكيين»، وقد فُرضت عليهم التنصير القسري، وملاحقة الهويات الإسلامية، ومصادرة الممتلكات، ومراقبة الأسماء واللباس والعادات. ومع اشتداد البطش الإسباني، ظهرت بينهم نزعات مقاومة متعددة، كان أبرزها وأشدها تأثيرًا في البحر المتوسط ما عُرف بجهادهم البحري، الذي اتخذ طابعًا عسكريًا وانتقاميًا وروحيًا في آنٍ معًا.
 
البحر كان وسيلتهم للفرار من قبضة الاستئصال، لكنه أيضًا صار ميدانهم للثأر والدفاع عن الدين والكرامة. فمن خلال البحر الأبيض المتوسط، تواصل الموريسكيون مع شمال إفريقيا، وخاصة مدن الجزائر وتونس وطرابلس، حيث احتضنتهم المجتمعات الإسلامية، ووفرت لهم مأوىً ومتنفسًا جديدًا لمواصلة حياتهم، بل وتحقيق الانتقام من إسبانيا التي هدمت مساجدهم وأحرقت كتبهم ومزّقت هويتهم. كثير من هؤلاء الموريسكيين انخرطوا في صفوف الأساطيل الجهادية التي كانت تهاجم السفن والموانئ الإسبانية والإيطالية، دفاعًا عن المسلمين وردًا للعدوان المتكرر.
 
لقد تميز الموريسكيون بمهارات بحرية فائقة، وكانوا على دراية دقيقة بخفايا السواحل الأوروبية، مما جعلهم عنصرًا حيويًا في عمليات الكرّ والفرّ البحري. وقد برعوا في الملاحة والصناعة البحرية، وساهموا في بناء أساطيل قوية في المدن الإسلامية، وخاصة في الجزائر التي أصبحت قلعة الجهاد البحري. وكان من أشهر من احتضنهم ووجه طاقاتهم القائد العثماني خير الدين بربروس، الذي أدرك أهمية توظيف هؤلاء المطرودين من ديارهم، لما لديهم من حماسة دينية وثأر شخصي ومعرفة بحرية نافعة.
 
كان دافع الموريسكيين في هذا الجهاد البحري مزدوجًا: دينيًا وانتقاميًا. فمن جهة كانوا ينظرون إلى كل هجوم على السفن الإسبانية على أنه فريضة وواجب مقدس في سبيل نصرة الدين، ومن جهة أخرى كانوا يثأرون لذويهم الذين قُتلوا أو شُرّدوا أو تم تنصيرهم قسرًا. ولذلك كانت عملياتهم محمّلة بعاطفة جارفة وعزم لا يلين. بل إن بعض المؤرخين الإسبان وصفوا جهادهم البحري بأنه «حرب لم تنتهِ بسقوط غرناطة»، بل استمرت على شكل غارات من البحر تُبقي الأندلس حيّة في الذاكرة.
 
وقد أحدث الموريسكيون بفضل جهادهم البحري اضطرابًا حقيقيًا في حركة التجارة الإسبانية والبرتغالية، وعرقلوا إلى حدٍّ كبير مشاريعهم الاستعمارية في البحر المتوسط. وكانت مساهماتهم بالغة الأثر، ليس فقط في القوة العسكرية، بل أيضًا في المجال الاستخباراتي، حيث كانوا يمدون الأساطيل الإسلامية بمعلومات ثمينة حول تحركات العدو وأوضاع الموانئ الأوروبية. ومع الطرد النهائي للموريسكيين من إسبانيا ما بين عامي 1609 و1614، تزايدت أعدادهم في شمال إفريقيا، وازداد اندماجهم في المجتمعات الإسلامية، لكن بعضهم ظل وفيًّا لمسار الجهاد البحري، يهاجمون السفن الأوروبية ويقيمون حصونًا بحرية في جزر وموانئ متعددة، مسخّرين ما تبقى من حنينهم وجرحهم التاريخي في حرب لا تهدأ.
 
إن جهاد الموريسكيين البحري لم يكن مجرد ردة فعل عسكرية عابرة، بل كان تعبيرًا عن وعي جماعي ورفض تاريخي لسياسات الإقصاء الثقافي والديني، وسلوكًا مقاومًا يعكس عمق المأساة التي لحقت بالهوية الإسلامية في الأندلس. لقد عبّر هذا الجهاد عن نوع من «الحنين المسلح»، حيث تحوّلت الذكرى الجماعية للضياع إلى دافع للثأر والمشاركة في صراعات القوى الإسلامية الكبرى، خاصة الدولة العثمانية. وإذا كان هذا الجهاد لم يُفلح في استعادة الأندلس، فإنه قد نجح في تدوين حضور الموريسكيين في التاريخ البحري والسياسي للعالم الإسلامي، وأثبت أن روح المقاومة لا تموت ما دامت الذاكرة حية.