الراي-د. محمد غوانمة
تشكل الأغنية الأردنية عنصراً مهماً في ماضي المواطن الأردني ووجدانه وكيانه منذ آلاف السنين، فهو يولَد مولعاً بالغناء والتوقيع، ذوّاقاً لأغنيته التي تواكبه منذ فجر صباه، ممارساً لها في المناسبات الاجتماعية والدينية والقومية، وعندما تدعو الحاجة النفسية لأن يعبّر بها عن ذاته وكيانه، منفرداً أو في جماعة، وبشكل تلقائي وفي أي زمان أو مكان، مرفِّهاً بها عن نفسه وعن الآخرين، فإنه يردد منها ما يُعينه على مقتضيات حياته.
والأغنية الأردنية، وإن كانت في حقيقتها مجهوداً فردياً، إلا أنها سارت وفق الذوق الجمالي الجمعي للأردنيين الذين تربّوا على قيم ومبادئ أغانيهم، فقد حملت همومَهم وطموحاتهم، فجاءت كضرورة اجتماعية روحية نفسية صنعها المبدعون وامتلكها الشعب كله، الخُلقُ العربي مادتُها الأساسية، وحسُّه الدفاق مُوَجّهُها وحاديها.
لقد حتمت الظروف الجغرافية والتاريخية والاجتماعية -المليئة بالمتغيرات والتأثيرات المتبادلة عبر آلاف السنين- على الأغنية الأردنية ثراءً وتنوعاً، أثّر في النشاط الإبداعي الفني والثقافي، وأضفى على الأغنية والموسيقى الأردنية خصائص واضحة وطابعاً مميزاً، فساهمت هذه الظروف مجتمعة في خلق عناصر هذا التراث الفني، وتأصيله في أعماق الإنسان الأردني، رغم كل التقلبات الحضارية والغزوات الفكرية وأساليب التحديث المعاصرة.
لقد تميزت المملكة الأردنية الهاشمية بالعديد من الألوان الغنائية، التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بدورة حياة الإنسان فيها منذ ولادته وحتى وفاته، حيث تشهد كل مرحلة من مراحل حياته لوناً معيناً ونمطاً خاصاً، وسمات تميز كل مرحلة عن سواها، معتمدة في ذلك على الأصالة، ومستمدة تكوينها الفني من تراث الشعب الذي ينتقل شفاهة من جيل إلى جيل، معبراً عن روحه الجمعية وعن تقاليده. كما يساهم اللحن المصاحب للأغنية في تكوين تلك الأغنية، ويعدّ عاملاً فعّالاً في تقوية الذاكرة عند المغني، ويلعب الإيقاع دوراً مهماً في أغاني التراث الشعبي، حيث يظهر ذلك جلياً في تراكيب تلك الأغاني وخاصة أغاني الدّبكات (الرقصات) الشعبية.
وإضافة إلى أغاني التراث الشعبي الأردني، فإن ثمة ألواناً غنائية أخرى صيغت نصاً ولحناً وأداءً على منوال أغاني التراث الشعبي، واستخدمت ألحان هذه الأغاني كأفكار أساسية لألحان جديدة في قوالب فنية مبتكرة، انتشرت في الغناء الأردني ضمن أغانٍ جديدة طويلة متطورة، أو ضمن أعمال فنية تشمل مقدمة موسيقية وتحويلات نغمية مختلفة، تؤديها فرقة موسيقية كبيرة، يصاحبها مطرب محترف صنْعتُه الغناء.
يعتمد الغناء التراثي الأردني على اللهجة العامية، فهو يُصاغ بشكل نصوص شعرية شعبية أو زجلية، تروي قصص وملاحم الحياة التي مر بها الإنسان الأردني بشكل خاص والإنسان العربي بشكل عام، مؤكدة على نظرة الإخاء والتسامح بين أبناء العالم العربي بمختلف ألوانهم ودياناتهم. وتحتوي أغاني التراث الشعبي الأردني على ألوان أساسية من الغناء أهمها: الغناء البدوي وقوالبه المتعددة، والغناء الرّيفي وقوالبه الغنائية، والغناء البحري وهو محدود جداً في الأردن.
وعادة ما تكون الأغاني الأردنية ترجمةً فورية لشعورٍ جيّاش بالرضا أو الرفض، بالفرح أو الترح، وكثيراً ما تناولت أغراضاً شتى، تبعاً للحالة التي تنتاب المرء حينها، وهي على الغالب وليدة الساعة التي تقال فيها، وأكثر ما يميز هذه الأغاني هو العفوية والصدق، إذ تخرج من القلب لتستقر في القلب.
وتتسم الأغنية الأردنية بالبساطة والوضوح في غالبية ألحانها، والمباشرة في البناء اللحني، وتتشكل هذه السمات من خلال الارتباط التام بين كلماتها وإيقاعاتها الشعرية وألحانها الموسيقية.
تشكل الأغنية تشكل حقبة زمنية من تاريخ الأردن وثقافته وحياته الخاصة، وللحفاظ عليها لا بد من البحث الدائم والموثَّق توثيقاً منهجياً من خلال التدوين الموسيقي الصحيح والتسجيلات الصوتية النقية لنماذجها. إنّ كثيراً من ذلك قد تم، سواء في المكتبة الموسيقية للإذاعة الأردنية أو من خلال الدراسات والكتب والرسائل الجامعية التي قام بها العديد من الشباب الأردني في هذا المجال، مما يضمن لهذه الأغنية البقاء بشكلها الصحيح السليم، وعليه فإن الفرصة متاحة للإبداع والاستلهام للفنانين الأردنيين وللعرب لتقديم هذا الفن الأصيل برؤية جديدة، مع الإشارة إلى أن ذلك ليس بديلاً عن الأصل، فليس للتجديد الموسيقي حدود تكبل خيال الفنان، لأن لغة الموسيقى بطبيعتها مرنة، وليس أوفق من التجديد على أسس موضوعية من موسيقى الشعب وتراثه.
لقد نجحت الأغنية الأردنية في مسايرة الأحداث التي عايشها المجتمع الأردني بشكل خاص والمجتمع العربي بشكل عام، وانتشرت بإيقاعاتها الوثَّابة وألحانها السلسة في ما وراء حدودها الثقافية، فقد اهتمّ الأردنيون بالحفاظ على تراثهم الغنائي عموماً وأغانيهم خصوصاً بنقلهما من دائرة المحدودية في البادية والريف إلى آفاق أوسع وأرحب بوسائل تكنولوجية متطورة سايرت تطور الزمن ومتطلبات العصر، فكان على رأس تلك الوسائل الإذاعة والتلفزيون.
وقد كان خلف تلك النجاحات الواسعة التي حققتها أهزوجتنا الأردنية مجموعة متميزة من الفنانين الأردنيين والعرب على اختلاف مواهبهم وقدراتهم واهتماماتهم، فمنهم شعراء مبدعون، أمثال: رشيد زيد الكيلاني، وحيدر محمود، وحسني فريز، وسليمان المشيني، وعبد الرحيم عمر، وإبراهيم مبيضين، وعساف الطاهر، ومحمود المطلق. ومنهم ملحنون موهوبون، أمثال: جميل العاص، وتوفيق النمري، وروحي شاهين، وإميل حداد، وأنطون شمعون، ومحمد الأدهم، ورامز الزاعة. ومنهم مطربون غريّدون، أمثال: توفيق النمري، وسلوى، وسميرة توفيق، وعبده موسى، وسهام الصفدي، وفؤاد حجازي، وكروان، ويوسف رضوان، وشكري عيّاد، وإسماعيل خضر، وعمر العبداللات، وسامي الشايب، وفتى فلسطين، وإلياس عوالي، وفهد نجار، وغالب الخطيب، وعائدة شاهين.
ولا ننسى في هذا المقام أن نذكر بالخير نخبةً من رجالات الأردن الغيورين على الأغنية الأردنية، والذين وقفوا إلى جانب هؤلاء الفنانين جميعاً يشجعونهم ويقدمون لهم النقد البنّاء والتوجيه والإرشاد الوطني المخْلص لأرضه وأهله وقيادته، ونذكر من هؤلاء الرجال: هزاع المجالي، ووصفي التل، وعبد الحميد شرف، صلاح أبو زيد، ونصوح المجالي.
مما سبق، يمكن القول إن هنالك علاقة وثيقة وخاصة بين الأغنية الأردنية وحياتنا الاجتماعية في الأردن، فالأغنية انعكاس للصور والانفعالات والتطلعات التي عايشها الشعب، ولذلك فقد تأثرت هذه الأغنية بالعوامل النفسية والفكرية المكونة للأفراد والجماعات في الأردن. وهي ذات إمكانيات فريدة في إيقاعها الشعري وكلماتها الحية وألفاظها الجزلة، مما أضفى عمقاً خاصاً لموسيقاها الكامنة خلف كل نموذج من نماذجها، إضافة للصوت الغنائي ذي الحس الجماعي الذي أدى هذه الأغنية والتصق بها وبمعانيها وأفكارها كل الالتصاق، مع استيعابها للجانب الحضاري العام المحيط بحياة الشعب وربطه بمختلف مهام هذه الأهزوجة، فتشكلت لها قاعدة تنشطها وترسخها وتؤكد مكانتها بين مختلف الأوجه الفنية والثقافية، من خلال إبداع ذاتي عمّق ماهيتها وجذّرَها عبر الأجيال.