عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    24-Dec-2025

أوجاع صامتة.. هل يخسر المرض النفسي معركة التعاطف المجتمعي؟

 الغد-تغريد السعايدة

 ما بين ألم مخفي، وآخر ظاهر، تتباين مواساة الأشخاص لبعضهم بعضا؛ فمن نزف دمه وبدت عليه آثار الوجع، يتراكضون لاحتوائه ومساندته، بينما من كان نزفه "داخليا"، ويعاني من أمراض أو ضغوط نفسية، يكتفي الكثيرون بعبارات قد يكون أصعبها: "شو مالك مش ناقصك شي".
 
 
كثيرة هي الملاحظات التي يتحدث بها المختصون في العلاج والدعم النفسي، حين يجدون خلال رحلة العلاج أن المريض قد يعاني في كثير من الأحيان من عدم شعور الآخرين به، والاستهانة بما يعانيه من أوجاع وجروح داخلية نفسية قد توازي في ألمها الجروح الجسدية، وربما أكثر من ذلك.
كلمات الدعم والمواساة
لذا، يحاول المختصون أن يكونوا دائما إلى جانب المريض، ودعوة عائلته إلى الوقوف بجانبه، وأن يساندوه من خلال كلمات الدعم والمواساة، وإعطائه الاهتمام الذي يوازي آلامه التي لا تظهر للعيان، لكنها قد تصل إلى درجة لا يمكن علاجها مع مرور الوقت.
أحد علماء النفس في العالم، ويدعى إيثان كروس، توصل إلى نتيجة مفادها بأنه "لا يوجد فرق بين الألم النفسي والألم الجسدي بالنسبة للدماغ البشري"، وذلك من خلال تجربة علمية قام بها في رحلته مع العلاج النفسي.
بمعنى أن دماغ الإنسان يتعامل مع الألم الذي قد ينتج عن جرح عميق، كغرز سكين في القلب، كما يتعامل مع الألم الناتج عن انكسار أو إحباط بسبب خذلان أو صدمة نفسية عاطفية كبيرة، وأن الدماغ يستجيب بطريقة مشابهة تماما لدماغ شخص توقف عن تعاطي المخدرات، مثلا.
 
"شو ناقصك".. كلمات مدمرة!
الكثير من الناس يعتقدون أن بعض كلمات المواساة قد يكون لها وقع سلبي على المريض أو على من يعاني من ضغوط نفسية، وكما تقول لانا في تعليقها على ذلك: "شو ناقصك؟" دمرت العالم، على حد تعبيرها.
اختصاصي الطب النفسي والإدمان الدكتور منتصر بشير الحياري يقول في مثل هذه الحالات إن الألم الجسدي، وللأسف، مفهوم بالنسبة للناس أكثر، وذلك بسبب وجود دليل مرئي وواضح أمامهم، كما في حالات الكسر أو الالتهاب أو الجروح ووجود الدماء الظاهرة للعيان، وهذا يعني لهم أن الشخص المصاب هنا من حقه أن يتألم ويعبر عن ألمه، فيسارعون إلى مواساته في محاولة للتخفيف من أوجاعه.
التقليل من حجم ألم المريض النفسي
بينما ما يثير الاستغراب، كما يقول الحياري، أن الآلام الأخرى غير المرئية لا توجد إشارة مباشرة على وجودها في الجسم، كما هي الحال في الأمراض النفسية أو الضغوط النفسية، ولا يعتقد الناس بوجود ألم فيها لعدم قدرتهم على مشاهدة دليل أمامهم يثبت ذلك، فعادة ما يطلق عليها الناس توصيفات مثل "دلع، مبالغة، ودراما في التعبير عن المشاعر"، وغيرها من العبارات التي تقلل من حجم ألم ووجع المريض.
وبالتالي، يطالب المحيطون بالمريض أن يكون على قدر من الوعي والتحمل، وألا يبالغ في ردود أفعاله تجاه آلامه التي يشعر بها وحده دون غيره، كما يقول الحياري، بحجة أنه لا يوجد أمامهم ما يثبت وجود حالة مرضية بالنسبة لهم، وهذا يعني في نظرهم أنه شخص غير مريض.
وصمة مجتمعية مرتبطة بالمرض النفسي
اختصاصية علم النفس الإكلينيكي، المعالجة ديما حداد، تنوه إلى أن "الوصمة المجتمعية المرتبطة بالمرض النفسي ما تزال متجذرة في تصورات خاطئة منتشرة بصورة كبيرة جدا، للأسف".
وتبين حداد أن الاضطرابات النفسية ما يزال هناك من يربطها بقلة الإيمان والوازع الديني، وضعف الإرادة والعزيمة، أو بحدود الشخصية الضعيفة المرفوضة مجتمعيا، فيما يعتقد آخرون أن سبب المرض النفسي يعود إلى مظاهر سوء الخلق المرتبط بالإدمان بكل أشكاله.
لذلك، نجد أن المجتمع في كثير من الأحيان يهاجم المريض النفسي بنظرة إقصائية، قد تصل إلى وصفه بالجنون أو فقدان الأهلية، بدل التعامل معه كإنسان يعاني من حالة صحية حقيقية تحتاج إلى فهم وعلاج.
تجنب اظهار الآلام النفسية أمام الآخرين
في المقابل، ووفق حداد، يحظى المرض الجسدي بقبول مجتمعي أوسع لأنه مرض ملموس ويمكن إثباته عبر الفحوصات المخبرية، وصور الأشعة، والتقارير الطبية، ما يجعله مفهوما وسهل التصديق. أما الاضطرابات النفسية، فرغم أنها حقيقة طبية مثبتة، ولها أعراض واضحة، ومعايير تشخيص، وأدوات تقييم علمية معتمدة، إلا أنها ما تزال تقابل بالإنكار أو التقليل من شأنها بسبب غياب الدليل المرئي المباشر.
ولكن قد يكون هناك أشخاص بالفعل لديهم حس المسؤولية والشعور بالآخرين من حولهم ممن يعانون أمراضا نفسية، بسبب قربهم من أصدقاء تعرضوا لصدمات في حياتهم. وهو ما يتحدث عنه قصي محتسب، الذي كتب عن صديقه الذي عانى لفترة من حياته من ضغوط نفسية، وكان يحاول تجنب إظهارها أمام أصدقائه، ما أسهم في زيادة وقع تلك الضغوط عليه، حتى بات يعاني من اكتئاب وقلق وعزلة اجتماعية.
لم يكن بعض أصدقائه يشعرون بما يعانيه ذلك الصديق؛ إذ كان يخرج معهم، ولديه عمل منتظم، وارتبط ويحضر لزواجه، لكنه كان يحمل الكثير من الآلام التي لم يتحدث بها للجميع، في حين كان بعض أصدقائه يصفون ما يمر به بأنه "يبالغ ويعمل دراما".
التدخل العلاجي المبكر 
وبحسب حداد، فإن الاضطرابات النفسية ليست حالات عابرة أو أوهاما نفسية، بل قد تصل في بعض الأحيان إلى درجة تعطيل حقيقي يؤثر في قدرة الشخص على العمل، والتعلم وإدارة حياته اليومية، وينعكس بشكل مباشر على أسرته والمحيطين به.
وتبين حداد أن مظلة هذه الاضطرابات واسعة، وتشمل اضطرابات شائعة مثل القلق والاكتئاب والوسواس القهري وغيرها، وقد تؤثر في بعض الحالات على إدراك الشخص للواقع أو على علاقته بنفسه وبالآخرين، وقد تصل إلى الانتحار، للأسف.
وتبدأ تلك الحالة من المرض التي يصل فيها الشخص إلى مرحلة عدم تقبل الحياة والانتحار عند غياب الاعتراف المجتمعي والتدخل العلاجي المبكر في المراحل المناسبة، وفق حداد، من خلال أشخاص مؤهلين للتعامل مع حدود الاضطراب النفسي، واختصاصي نفسي مرخص، إلى جانب الطبيب النفسي المختص.
في حين ينصح الحياري المجتمع بأن يكونوا على قدر كاف من الوعي والتفهم لبعضهم بعضا، وأن يظهروا تعاطفا كافيا لاحتواء بعضهم، خاصة من يعانون من شروخ نفسية وأمراض غير مرئية جسديا، وأن يتيقنوا أن "الألم النفسي حقيقي ولا يقل إيلاما عن الألم الجسدي".