الغد
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
مقدمة:
على مدى العقود الماضية، أُعيد تشكيل الوعي الغربي، إلى حدّ بعيد، حول فكرة مركزية هي أنّ "الإسلام يمثل مشكلة". ولم يكن هذا التحوّل وليد صدفة ولا نتيجة لسوء فهم بسيط. كان في الحقيقة نتاجًا لتراكم طويل من الخطابات السياسية والإعلامية والأكاديمية التي صاغت رؤية اختزالية تجعل من الإسلام، بوصفه دينًا وحضارة وهوية، مصدرًا دائمًا للتهديد. وفي هذا المناخ، كما يلاحظ جوناثان كوك،
أصبحت الأسئلة السطحية من قبيل: هل الإسلام دين عنيف؟ لماذا لم يعرف المسلمون تنويرًا؟ ولماذا يبدو بعض المسلمين مولعين بقطع الرؤوس؟ جزءًا من المخزون الثقافي السائد الذي يحدّد علاقة الغرب بالعالم الإسلامي، ويعيد إنتاج رواية صدامية لم تخضع فصولها لأي مراجعة واعية أو اختبار جديّ، وإنما صُمّمت خصيصًا لتبرير سياسات القوة والهيمنة التي تتبناها أنظمة المركز الاستعماري الغربي.
ثمة في صميم هذا الخلط بين الدين والهوية والسياسة حقيقة أساسية: أنّ معظم الغربيين لا يفرّقون بين الإسلام Islam والإسلاموية Islamism، ويتعاملون مع المصطلحين كما لو كانا شيئًا واحدًا. وبحسب كوك، ثمة فارق جوهوري بين المفهومين، تمامًا مثل الفارق بين اليهودية والصهيونية، أو بين الهندوسية وحركة "هندوتفا" (1) القومية. وكما يرى كوك، لم يكن هذا الخلط المتعمّد -الذي يسهُل ترويجه في بيئة إعلامية متوترة ومشبعة بالدعاية- مجرّد زلّة معرفية بقدر ما كان أداة سياسية فعّالة أبقت المجتمعات الغربية في حالة خوف من المسلمين، وأسهمت في ترسيخ نوع من الدعم غير المشروط للكيان الصهيوني، وأعاقت أي محاولة لفهم الأسباب البنيوية التي أنتجت التطرف في الشرق الأوسط، وساعدت على ظهور جماعات فتاكة مثل "داعش".
في مقاله المترجم أدناه، يذهب جوناثان كوك أبعد من تصحيح المفاهيم إلى وضع المرآة أمام الغرب، ويشرح كيف أنّ الرواية السائدة عن الإسلام تقول عن الغرب أكثر مما تقول عن المسلمين أنفسهم؛ إنها تفضح المصالح السياسية التي شكّلت السردية، وتُعري التاريخ الطويل من التدخلات الخارجية والعنف الإمبريالي الذي أعاق مسارات التطور الطبيعي داخل المجتمعات الإسلامية.
كانت الأسئلة التي يعتقد كثير من الغربيين أنها "فلسفية" أو "لاهوتية" حول عنف الإسلام أو فشله في إنتاج نهضته الخاصة، تتجاهل الظروف المادية والاجتماعية والتاريخية التي أحاطت بظهور التنوير الأوروبي، كما تتجاهل العوامل الخارجية التي أجهضت أي محاولة لبلورة مشروع إصلاحي إسلامي مستقل. في السردية الغربية غالبًا ما يتم اختزال قرونٍ من الازدهار العلمي في العالم الإسلامي إلى سطور هامشية، بينما تُنسب كل مظاهر التخلف المعاصر إلى الدين نفسه وليس إلى السطوة العسكرية والسياسية التي مارستها أوروبا -ثم الولايات المتحدة- على المنطقة منذ اكتشاف النفط وحتى اليوم.
يكشف كوك في هذا المقال عن عمق الهوة المعرفية التي تفصل الوعي الغربي عن الإسلام الحقيقي كدين معقّد، متنوّع ومتعدد القراءات. ويبيّن أنّ الإسلامويين، شأنهم شأن الصهاينة أو القوميين الهندوس، يستخدمون اللغة الدينية لبناء مشروع سياسي، وأنّ العنف الذي يُلصق بالإسلام لا يقول شيئًا عن جوهر الإسلام بقدر ما يتحدث عن هشاشة مجتمعات دمّرتها قرون من الاستعمار والحروب والأنظمة الوكيلة التي زرعتها القوى الغربية نفسها في العالم الإسلامي.
في سياق تفكيكه لأربع مغالطات يرصدها في فهم الغرب للإسلام، يسرد كوك الأسباب التي جعلت التنوير الأوروبي ممكنًا. وكما يقرؤه، لم يكن ذلك التنوير نتاج عبقرية فطرية، وإنما بدأه تطور تقني بسيط جعل الطباعة ميسورة، بينما أعاق التعقيد البنيوي للخط العربي إمكانية حدوث ثورة معرفية مماثلة في العالم الإسلامي. كما يُظهر كيف استفاد الغرب من تقدّمه التقني ليُخضع الشرق، وينهب ثرواته، ويمنع مجتمعاته من تطوير بنيتها السياسية والاجتماعية الخاصة.
يذكّر كوك بأن الإسلام السياسي لم يكن قدرًا محتومًا في العالم الإسلامي بقدر ما كان استجابة مُتأخّرة لهزائم كبرى، أهمها نكبة العام 1948 وهزيمة العام 1967، وما كشفته تلك الهزائم من عجز الأنظمة العلمانية التي رعَتها القوى الاستعمارية القديمة والجديدة. وبذلك، لم تنشأ الإسلاموية من النص الديني نفسه بقدر ما وُلدت من واقع سياسي مدمّر، ومن إحساس جماعي بالانكسار والبحث عن معنى وهوية وخلاص.
يساعد هذا المقال القارئ العربي على فهم كيفية تصنيع التصويرات النمطية في الغرب، وكيف تتحوّل المغالطات هناك إلى حقائق راسخة تُستخدم لتبرير سياسات الاحتلال، والحروب، والتدخلات، وتحويل الضحية إلى متّهم. وفي الوقت نفسه، يقدّم المقال للقراء الغربيين فرصة لإعادة النظر في بنية خطابهم الخاص عندما يتعلق الأمر بالمسلمين، والخروج من دائرة الأسئلة الخطأ إلى الأسئلة الحقيقية: ما الذي صنع هذا العنف في العالم الإسلامي؟ مَن هو المستفيد من ترسيخ صورة الإسلام كتهديد؟ ومَن هو الذي حال دون تحقق النهضة في عالم إسلامي كان لقرون رائدًا في الفكر والعلم والفلسفة؟
علاء الدين أبو زينة
جوناثان كوك* - (كونسورتيوم نيوز) 5/11/2025
أظهرت لي محادثة حديثة مع صديق مدى ضآلة معرفة معظم الغربيين بالإسلام، وكيف أنهم يكافحون ويجدون صعوبة في التمييز بين الإسلام والإسلاموية.
هذا الجهل، الذي تم غرسه واستثماره في الغرب عمدًا لإبقائنا خائفين ومؤيدين لإسرائيل، يعيد إنتاج الظروف نفسها التي كانت قد أثارت في الأصل التطرف الأيديولوجي في الشرق الأوسط، وأدّت في نهاية المطاف إلى ظهور جماعة مثل تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش).
في هذا المقال، سوف أتناول أربعة مفاهيم خاطئة شائعة عن المسلمين، والإسلام، والإسلاموية - وكذلك عن الغرب نفسه، والتي يمكن أن يشكل كل منها مقالة صغيرة مستقلة بحد ذاتها.
في الحقيقة، ليس ثمة ما هو فريد أو غريب في الإسلام. الإسلام دينٌ، يُسمّى أتباعه "المسلمون". أما "الإسلاميون"، من جهة أخرى، فيسعون إلى تحقيق مشروع سياسي، ويستخدمون هويتهم الإسلامية كوسيلة لإضفاء الشرعية على جهودهم لدفع ذلك المشروع قُدمًا. المسلمون والإسلاميون شيئان مختلفان.
وإذا لم يكن هذا التمييز واضحًا بما يكفي، فلكم أن تفكّروا في حالة موازية.
اليهودية دينٌ، يُسمى أتباعه "اليهود". أما "الصهاينة"، من جهة أخرى، فيسعون إلى تحقيق مشروع سياسي، ويستخدمون هويتهم اليهودية كوسيلة لإضفاء الشرعية على جهودهم لدفع ذلك المشروع قُدمًا. اليهود والصهاينة شيئان مختلفان.
من الجدير بالملاحظة أنّ مجموعةً بارزةً من الصهاينة، بمساعدة القوى الاستعمارية الغربية على مدى القرن الماضي، حققت نجاحًا كبيرًا في إنجاز مشروعها السياسي. في العام 1948، أسّسوا دولةً أعلنت نفسها "يهودية" هي إسرائيل، من خلال طرد الفلسطينيين بعنف من وطنهم.
اليوم، يُعرِّف معظم الصهاينة أنفسهم عند مستوى معين بدولة إسرائيل. وهم يفعلون لأنّ ذلك مفيد بالنظر إلى أنّ إسرائيل مدمجة بإحكام في "المنظومة الغربية"، وثمة منافع مادية وعاطفية يمكن جنيها من التماهي معها.
لكنّ سجلّ الإسلاميين أكثر تباينًا وتقلبًا بكثير. على سبيل المثال، تأسست جمهورية إيران الإسلامية على يد إسلامويين من رجال الدين في ثورة العام 1979 ضد حكم استبدادي لملكية مدعومة من الغرب بقيادة الشاه.
وتحكم أفغانستان اليوم حركة طالبان الإسلامية، وهي جماعة من الشباب المتشددين الذين ظهروا بعد تدخل طويل للقوى العظمى، السوفيات والأميركيين- والذين ترك بلدهم مدمَّرًا وفي قبضة أمراء حرب إقطاعيين. وتقود تركيا؛ الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، حكومةٌ إسلامية.
ولكلّ واحد من هذه الأنظمة برنامجٌ إسلاميٌّ مختلف -ومتعارض. وتُظهر هذه الحقيقة بحد ذاتها أنه لا وجود لإيديولوجيا "إسلاموية" واحدة متجانسة. (سنعود إلى هذا البحث لاحقًا).
بعض الجماعات الإسلاموية تسعى إلى التغيير عن طريق العنف، وأخرى تريد التغيير السلمي، تبعًا لكيفية رؤيتها لمشروعها السياسي. وليس جميع الإسلاميين من غلاة قطع الرؤوس على شاكلة تنظيم "داعش".
ويمكن قول الشيء نفسه عن الصهاينة. بعضهم يسعى إلى التغيير بالعنف، وبعضهم يريده سلميًا، تبعًا لرؤيتهم لمشروعهم السياسي. وليس جميع الصهاينة من الجنود قتلة الأطفال الذين ترسلهم الدولة الإسرائيلية اليوم إلى غزة.
ويمكن أيضًا إقامة التمييز نفسه بين الديانة الهندوسية والأيديولوجيا السياسية المعروفة باسم "هندوتفا".(1) الحكومة الحالية في الهند -بقيادة ناريندرا مودي وحزبه "بهاراتيا جاناتا"- قومية متطرفة بشدة ومعادية للمسلمين. ولكن ليس هناك شيء في جوهر الديانة الهندوسية يقود بالضرورة إلى مشروع مودي السياسي. لكن "الهندوتفية" تناسب أهدافه السياسية.
كما يمكننا أن نرى اتجاهات سياسية مشابهة في الكثير من تاريخ المسيحية، بدءًا من الحملات الصليبية قبل ألف عام، مرورًا بعمليات التنصير القسري خلال الحقبة الاستعمارية الغربية، وصولًا إلى القومية المسيحية الحديثة التي تعتنقها حركة "جعل أميركا عظيمة مجددًا" (ماغا) بقيادة دونالد ترامب في الولايات المتحدة، والتي تُهيمن على حركات سياسية رئيسية في البرازيل والمجر وبولندا وإيطاليا وغيرها.
الفكرة الرئيسة هنا هي الآتي: يمكن لأتباع الحركات السياسية -وغالبًا ما يفعلون- أن ينسجوا على منوال لغة الديانات التي نشأوا عليها لتبرير برامجهم السياسية ومنحها شرعيةً إلهيةً مزعومة. ويمكن أن تكون هذه البرامج عنيفةً أو سلميةً، وغالبًا ما يعتمد ذلك على الظروف التي تتعامل معها تلك الحركات.
إن هوس الغرب بربط الإسلام -وإنما ليس اليهودية- بالعنف، حتى بينما ترتكب دولة تعلن نفسها "يهودية" إبادةً جماعية، لا يخبرنا بشيء على الإطلاق عن هاتين الديانتين. لكنه يخبرنا الكثير عن المصالح السياسية للغرب. وسنفصل هذا لاحقًا.
كلا. إن ما يفعله هذا الطرح هو أنه يسيء تمامًا فهم الأساس الاجتماعي-الاقتصادي للتنوير الأوروبي ويتجاهل العوامل الموازية التي أجهضت تنويرًا إسلاميًا كان حاضرًا في وقت أبكر.
نشأ "التنوير" الأوروبي كنتيجة لتلاقي ظروف اجتماعية واقتصادية محددة سادت في أواخر القرن السابع عشر، وسمحت تدريجيًا لأفكار العقلانية والعلم والتقدم الاجتماعي والسياسي بأن تأخذ الأولوية على حساب الإيمان والتقاليد.
جاء ذلك التنوير نتيجةً لفترة من التراكم المُطّرد للثروات، والذي أصبح ممكنًا بفضل التطورات التقنية السابقة -وخاصة ما يتعلق منها بالطباعة والمطبعة.
كان ما حدث هو أن الانتقال من النصوص المخطوطة يدويًا إلى الكتب المنتجة بكميات كبيرة زاد من نشر المعلومات، وبدأ تدريجيًا في تقويض مكانة الكنيسة التي كانت حتى ذلك الحين قادرة على احتكار المعرفة وتركيزها في أيدي رجال الدين.
وأطلق ذلك العصر الجديد من البحث العلمي المكثف -الذي شجعه الوصول الأوسع إلى حكمة المفكرين والعلماء من الأجيال السابقة- موجةً سياسيةً يستحيل نقضها. ومع تآكل سلطة الكنيسة، جاء تضاؤل نفوذ الملوك الذين كانوا يحكمون باسم "حق إلهي" مُفترض.
بمرور الوقت، أصبح توزيع السلطة أقل مركزية، وشرعت المبادئ الديمقراطية الجوهرية في الرواج والترسُّخ تدريجيًا. وسوف تتجلى النتائج على مدى القرون التالية المتعاقبة. وكما حدث، أدّى ازدهار الأفكار والأبحاث إلى تحسينات في بناء السفن والملاحة والحروب، مما مكّن الأوروبيين من السفر إلى أراضٍ بعيدة. وهناك تمكنوا من نهب موارد جديدة، وإخضاع السكان المحليين المقاومين، وأخذ بعضهم عبيدًا.
تم جلب هذه الثروات إلى أوروبا، حيث استُخدمت في تمويل حياة من الرفاه المطرد لنخبة صغيرة من الأوروبيين. وصُرفت الفوائض على رعاية الفنانين، والعلماء، والمهندسين والمفكرين الذين نربط أسماءهم بـ"عصر التنوير".
ثم تسارع هذا المسار مع قدوم "الثورة الصناعية" التي زادت معاناة الشعوب في مختلف أنحاء الكوكب. كلما تطورت تقنيات أوروبا وتحسّنت أنظمة نقلها وازدادت أسلحتها فتكًا، أصبحت أوروبا في موقع أفضل لنهب ثروات مستعمراتها ومنع تلك المستعمرات من تحقيق تطورها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الخاص بها.
غالبًا ما يسود افتراض أنّ العالم الإسلامي لم يشهد "تنويرًا". لكنّ هذا التصوُّر ليس صحيحًا على الإطلاق. قبل قرون من "التنوير الأوروبي"، أنتج الإسلام ازدهارًا عظيمًا للحكمة الفكرية والعلمية. في الحقيقة، قاد العالم الإسلامي، على مدى نحو 500 عام بدءًا من القرن الثامن، تطوّر حقول الرياضيات والطب وعلم المعادن والإنتاج الزراعي في العالم.
وإذن، لماذا لم يستمر "التنوير الإسلامي" ويتعمق إلى الحد الذي يمكّنه من تحدي سلطة الإسلام ذاته؟
ثمة أسباب عديدة لذلك، واحد فقط منها -وربما أقلها أهمية- يتصل بطبيعة الدين نفسه. ليست في الإسلام سلطة مركزية تعادل البابا أو كنيسة إنجلترا. وكان هذا الدين دائمًا أكثر لامركزية وأقل هرمية من المسيحية. ونتيجة لذلك، كان القادة الدينيون المحليون، الذين يطورون تفسيراتهم العقائدية الخاصة للإسلام، أكثر قدرة على الاستجابة بشكل أفضل لمطالب أتباعهم.
وبالمثل، جعل غياب سلطة مركزية يمكن لومها أو تحديها من الأصعب خلق زخم نحو إجراء إصلاح على النمط الأوروبي.
ولكن، كما هو الحال مع نشأة "التنوير الأوروبي"، كان غياب "تنوير" حقيقي ومناسب في العالم الإسلامي متجذرًا فعليًا في العوامل الاجتماعية-الاقتصادية.
شكلت المطابع التي حررت المعرفة في أوروبا عائقًا كبيرًا أمام الشرق الأوسط. كانت الحروف الأبجدية اللاتينية في أوروبا سهلة الطباعة، نظرًا لأن حروفها منفصلة ويمكن ترتيبها ببساطة -حرفًا بعد آخر- لتشكيل كلمات وجُمل وفقرات كاملة. وكان نشر الكتب بالإنجليزية والفرنسية والألمانية شأنًا يسيرًا نسبيًا.
لكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للعربية. تتميز اللغة العربية بنظام كتابي معقد، حيث تتغير أشكال الحروف حسب موضعها في الكلمة. كما أن طبيعة الخط العربي المتصل تجعل كل حرف يرتبط فعليًا بالحرف الذي قبله والذي بعده. ولذلك كانت طباعة اللغة العربية شبه مستحيلة على تلك المطابع الأولى.
(ينبغي لأي أحد يستهين بصعوبة ذلك أن يتذكر أن الأمر تطلب من برنامج "مايكروسوفت وورد" سنوات طويلة لتطوير خط عربي رقمي مقروء، بعد وقت طويل من نجاحه في تصميم الخطوط اللاتينية).
Image1_1220252213854696985826.jpg
نقش من الخط العربي بخط السلطان محمود الثاني (1785-1839)، القرن التاسع عشر - (المصدر)
ما هي أهمية ذلك؟ عنى انتشار الطباعة في أوروبا أنّ العلماء الأوروبيين تمكنوا من السفر إلى المكتبات الكبرى في العالم الإسلامي، ونسخ أهم النصوص وترجمتها، ثم إعادتها إلى أوروبا لنشرها على نطاق واسع.
وبذلك، انتشرت المعرفة في أوروبا -مستفيدةً من الأبحاث المتقدمة للعالم الإسلامي- بسرعة كبيرة، غارسة بذلك البذور الأولى لعصر التنوير.
وعلى النقيض من ذلك، افتقر الشرق الأوسط إلى الوسائل التقنية -بشكل أساسي بسبب تعقيد الخط العربي- لمواكبة التطورات التي حدثت في أوروبا. وبينما كانت العلوم الغربية تمضي قدُمًا بسرعة، تخلّف العالم الإسلامي تدريجياً عن الركب، ولم يتمكن أبداً من اللحاق به.
أنتجت هذه الحقيقة واقعًا بالغ الوضوح: بينما كانت تقنيات النقل والغزو تتحسّن في أوروبا، أصبحت أجزاء من الشرق الأوسط هدفاً للاستعمار والسيطرة الأوروبية، وهو ما كافحت شعوب المنطقة طويلاً لتحرير نفسها منه.
وتزايد التدخّل الغربي بشكل كبير في أوائل القرن العشرين مع ضعف الإمبراطورية العثمانية ثم انهيارها، وسرعان ما تلا ذلك اكتشاف كميات هائلة من النفط في مختلف أنحاء المنطقة.
Image4_1220252213915864138720.jpg
"العمل في دار الطباعة"، إرنست فيغاند، دار لايبزيغ للنشر 1909 - (المصدر)
حكم الغرب الشرق الأوسط المستعمَر من خلال أنظمة وحشية تقوم على سياسة "فرّق تسد"، فأشعل الخلافات الطائفية في الإسلام -مثل تلك القائمة بين السنة والشيعة، المكافئين للكاثوليكية والبروتستانتية في أوروبا.
قبل أكثر من مائة عام، فرضت بريطانيا وفرنسا حدوداً جديدة تقطع بشكل متعمد الخطوط الطائفية والقبلية لإنتاج دول قومية شديدة الهشاشة وغير مستقرة إلى حد كبير، مثل العراق وسورية. وقد انهارت هذه الدول بسرعة عندما عادت القوى الغربية للتدخّل المباشر في شؤونها مجدداً في القرن الحادي والعشرين.
ولكن، حتى تلك النقطة استفاد الغرب من حقيقة أن هذه الدول غير المستقرة كانت في حاجة إلى "رجل قوي" محلي: مثل صدام حسين في العراق أو حافظ الأسد في سورية. وكان هؤلاء الحكام يعتمدون بدورهم على قوة استعمارية خارجية -غالباً بريطانيا أو فرنسا- من أجل الدعم والبقاء في السلطة.
باختصار، وصلت أوروبا إلى "عصر التنوير" أولاً بفضل ميزة تقنية بسيطة، لا علاقة لها بتفوّق قيمها أو ديانتها أو شعبها. وبقدر ما قد يبدو سماع هذا محبطًا ومخيّباً للآمال، فإن الهيمنة الأوروبية المذهلة يمكن تفسيرها في النهاية بما لا يزيد على تفوّقها في نصوصها المكتوبة.
لكن العنصر الأهم في هذا السياق ربما يكون أن تلك الهيمنة لم تكشف عن ثقافة غربية "متحضّرة" بشكل خاص بقدر ما كشفت عن جشع سافر ووحشي ألحق الدمار والخراب بشكل متكرر بالمجتمعات المسلمة.
بمجرد أن تقدّم الغرب في السباق -سباق السيطرة على الموارد- أصبح كل الآخرين مجبرين على الانخراط كل الوقت في لعبة صعبة للحاق بالركب، والتي كانت فيها الأضداد دائمًا تعمل ضدهم.
ويخفي شعار جورج بوش الابن الشهير "إنهم يكرهوننا بسبب حرياتنا" أكثر مما يُظهر. وربما يكون التعبير الأدق هو: "إنهم يكرهوننا بسبب الحريات التي حرصنا على حرمانهم منها".
كانت المشاريع السياسية التي تُنسب إلى الإسلاموية أحدث بكثير مما يدركه معظم الغربيين.
كانت الحركات الإسلامية المبكرة، التي ظهرت قبل نحو مائة عام في أعقاب سقوط الإمبراطورية العثمانية تسعى في الأساس إلى البحث عن طرق لتقوية مجتمعاتها من خلال الأعمال الخيرية.
وظلت مشاريعها السياسية الكبرى هامشية مقارنة بالجاذبية الأوسع للقومية والأكبر بكثير للقومية العربية العلمانية، مصحوبة بعدد من الزعماء الأقوياء الذين صعدوا إلى سدة السلطة -عادةً بمساندة القوى الاستعمارية البريطانية والفرنسية. (يُتبع)
*جوناثان كوك Jonathan Cook: صحفي بريطاني حائز على جوائز. عاش في مدينة الناصرة في فلسطين المحتلة لمدة 20 عاماً قبل أن يعود إلى المملكة المتحدة في العام 2021. وهو مؤلف لثلاثة كتب عن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: "الدم والدين: كشف القناع عن الدولة اليهودية" (2006) Blood and Religion: The Unmasking of the Jewish State ؛ "إسرائيل وصدام الحضارات: العراق، إيران، والخطة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط" Israel and the Clash of Civilisations: Iraq, Iran and the Plan to Remake the Middle East (2008)؛ و"فلسطين المتلاشية: تجارب إسرائيل في البؤس الإنساني" (2008). Disappearing Palestine: Israel’s Experiments in Human Despair.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Islam vs the West: 4 Fallacies Exposed
هامش المترجم:
(1) الـ"هندوتفا" Hindutva: هي أيديولوجيا قومية هندوسية ظهرت في أوائل القرن العشرين، تسعى إلى جعل الهند دولة تقوم على الهوية الهندوسية ثقافيًا وسياسيًا. وتركّز الـ"هندوتفا" على فكرة أن الهند ينبغي أن تُعرَّف باعتبارها وطنًا للهندوس أولاً، وأن بقية المجموعات الدينية -وخصوصًا المسلمين والمسيحيين- يجب أن تندمج داخل هذه الهوية المهيمنة أو تصبح في موقع أدنى منها. ترتبط هذه الأيديولوجيا اليوم ارتباطًا وثيقًا بحزب "بهاراتيا جاناتا" (BJP) ومنظمات قومية هندوسية أخرى، وتشكل الأساس الفكري للكثير من السياسات القومية المتشددة في الهند.