الغد- ترجمة: علاء الدين أبو زينة
نادر أندراوس* - (مجلة نيو لاينز) 28/3/2025
حدد سعيد توترًا أيديولوجيًا كبيرًا بين توصيف والزر للصهيونية بأنها حركة تحرر وطني وحقيقة أن السياسيين والمثقفين الغربيين أصبحوا متشككين بشكل متزايد في مثل هذه الحركات على مستوى العالم. في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، كان إنهاء الاستعمار سببًا للاحتفال بين المثقفين والحركات الطلابية في جميع أنحاء العالم. ويؤكد سعيد أنه بحلول السبعينيات والثمانينيات، تضاءلت شعبية هذه القضية بين المثقفين وفي الخطاب السياسي العام (مع الاستثناءات الملحوظة لنيكاراغوا وجنوب أفريقيا). وتوافق هذا التراجع مع تحول كبير عبر الطيف السياسي: طغى انشغال متزايد بـ"الثقافة" والخطابات الحضارية أو الدينية على المصطلحات الأبكر، مثل الاضطهاد والتحرر الوطني، كوسيلة لفهم ومقاربة المسألة الاستعمارية. وتساءل سعيد عن كيف ما يزال يتم الدفاع عن الصهيونية بهذه المصطلحات حتى اليوم. ويشكل والزر نفسه مثالًا على هذا التحول الفكري بعيدًا عن الماركسية ونحو سياسات الهوية (المفهومة على نطاق واسع بأنها تشمل الهوية الدينية والوطنية). وحتى أعماله الأكثر نظرية ومنهجية -خاصة كتابه "مجالات العدالة" Spheres of Justice الصادر في العام 1983- كانت منسجمة مع هذا الاتجاه الذي يُعلي من شأن "المجتمع" كإطار للقيم، وبذلك عبّرت عن شكل من أشكال السياسات الثقافية. فلماذا ظل والزر محتاجًا إلى مفهوم "الثورة" في حين أنه كان مفكرًا ما بعد ثوري بامتياز؟
قبل العام 1967، عندما كان التحالف مع الولايات المتحدة ما يزال غير حاسم لأمن إسرائيل، كان ما يزال من الممكن لليسار الغربي دعم إسرائيل على أساس أنها تمثل تجربة جديدة في الاشتراكية. وبعد العام 1967، أصبحت هذه الصورة لإسرائيل أقل قبولاً، بسبب الهيمنة العسكرية، والدور المتزايد للاحتلال والاعتماد على دعم القوى العظمى (تحديدًا القوة الأميركية)، وهي سمة كلاسيكية للاستعمار الاستيطاني. في غضون ذلك، تم تعريف "اليسار الجديد" من خلال معارضته لحرب فيتنام والحرب الباردة. كان هذا هو السياق الذي حدد "المزاج التحليلي" لوالزر، كما وصفه سعيد. كان هدف والزر هو إقناع جيل "اليسار الجديد" بأن دعم إسرائيل لا ينطوي على خيانة لالتزاماتهم التقدمية.
سعى سعيد إلى إلقاء الضوء على قضية أعمق في فلسفة والزر السياسية، وهي قضية تظهر في أجزاء أخرى من عمله أيضًا. كان هناك عدم اتساق وتوتر في عمل والزر بين المطالبة بالعالمية والتزامه بنوع من السياسة القائمة على الهوية أو الثقافة. في كتابه "مجالات العدالة"، ينتقد والزر النظرية السياسية الليبرالية لعدم إيلائها اهتمامًا كافيًا للتعددية ولعدم قابلية قياس "السلع الاجتماعية" المختلفة وأنماط توزيعها المقابلة (أي "مجالات العدالة")، مشيرًا إلى أنه لا يمكن اعتماد صيغة واحدة وشاملة للمساواة، لأن هذه الخيرات يمكن أن تُقيَّم بطرق متعددة. وأحد الأمور التي تترتب على هذا الطرح هو أن المجتمعات تملك طرقًا محدودة وثابتة لترتيب خيراتها الاجتماعية، التي تعرِّف بعد ذلك معيارها للعدالة، وبذلك يجب أن تكون أي محاولة لنقد تلك المجتمعات "داخلية" -أي أنها محكومة بالإطار الخاص للعدالة داخل ذلك المجتمع. وهكذا تُخضَع مبادئ العدالة للثقافة المحلية والهوية.
ظهر هذا الالتزام بالسياق المحلي بأكثر تعبيراته تطورًا في كتاب والزر "التأويل والنقد الاجتماعي" Interpretation and Social Criticism (1987). في هذا العمل، تنقل والزر بين أشكال مختلفة من النقد. تم استنفاد النقد السياسي (أي النقد الذي يتمحور حول نقد سلطة الدولة) ليفسح المجال للنقد الثقافي (الذي هو نقد للقيم)، بينما تم افتراض أولوية الهوية العرقية والدينية والقومية ببساطة على أنها الإطار الأكثر أهمية للقضية.
في هذا السياق، قدم والزر فكرة "المثقف المتصل"، أي المثقف الذي يحافظ على حس عاطفي وأخلاقي بالارتباط بمجتمعه الأصلي. وناقش والزر أمثلة متعددة على "المثقفين المتصلين"، لكن بطله كان ألبير كامو. فعلى الرغم من كونه أيقونة للمشاعر المناهضة للاستعمار في الأوساط الفكرية الفرنسية، انتقد كامو العنف المفرط للمقاومة الجزائرية المناهضة للاستعمار (جبهة التحرير الوطني) وتعاطف مع مجتمع "الأقدام السوداء" (المستوطنين الفرنسيين في الجزائر) الذي ينحدر منه. وجادل والزر بأن الناقد يجب أن يتحدث فقط إلى شعبه من أجل مخاطبة ضميره، وأن مصادر الهوية -الولاء والانتماء الحميم- تأخذ الأولوية على الوصفات الأخلاقية المجردة.
وهكذا، أراد والزر أن يجمع بين الأمرين: فقد أصرّ على مركزية النقد والتأمل -وربما حتى الالتزام بالمُثل الكونيَّة- لكن ذلك كان مشروطًا باستمرار بمتطلبات المجتمع والانتماء. وقد أتاح له هذا الموقف أن يُضفي الشرعية على السياسات العرقية-الدينية بمفردات يمكن أن يقبلها اليسار. كما أنه يفسر استراتيجيته في ما يتعلق بإسرائيل والصهيونية. والنتيجة، عمليًا، هي كَونٌ أخلاقي مغلق يتم فيه قبول حدود "المجتمع" من دون استنطاق، وتُمنَح فيه الأولوية لأشكال الهوية والسلطة الإثنية-الدينية. ويصبح الجهد المبذول للحفاظ على المبادئ الكونية إلى جانب أشكال محددة من الانتماء الديني والإثني متوترًا ومجهَدًا باطراد. وكان استشهاد والزر غير الموفق بالسرديات الدينية لدعم تلك المبادئ الكونية أحد أعراض هذا التوتر.
إليكم ما هو على المحك: كيف يمكن للمثقف أن يوازن بين الالتزامات الأخلاقية الكونية والارتباطات بمجتمعات معينة؟ طرح سعيد سؤالين حاسمين: ما إذا كانت "المسافة النقدية والحميمية مع شعب المرء" متعارضتَين؛ وما إذا كان الناقد الذي يخاطر بالعزلة عن مجتمعه يستحق احترامًا أكثر من "العضو المخلص للأغلبية المتواطئة". المصطلح الحاسم هنا هو "المخاطرة". يرى سعيد أن الاتصال ليس مقياسًا كافيًا لفعل النقد (على الرغم من أنه يقبل بأهميته) وأن ثمة عنصرًا حاسمًا آخر، هو الدرجة التي يُعرِّض بها المثقف نفسه لمخاطر الإقصاء والانتقام من السلطة. هذا، كما يقترح، هو الدرس الحقيقي لـ"التقاليد الغربية واليهودية". يبدو أن هذه هي مشكلة كتاب "الخروج والثورة": لا تنطوي أي من حجج مايكل والزر على أي تعرُّض للمخاطرة، لأنه ليس هناك أي شيء على المحك فعلاً. وبذلك، يمكنه الوفاء بكل من التزاماته "العلمانية" (السياسية) و"الدينية" في النهاية، لأنه لم يخاطر بأي منهما.
انتقد سعيد بشكل خاص تصريحًا أدلى به والزر دفاعًا عن أخلاقيات "جعْلهم يذهبون"، أي استبعاد أشخاص معينين من مجتمع وطني من خلال تسهيل هجرتهم. وأجاب والزر بأن هذا كان مجرد اعتراف واقعي بسياسات التقسيم التي هي نتيجة لا تنفصم لتقرير المصير الوطني. لكنّ ذلك، من وجهة نظر سعيد، سلط الضوء على الطريقة التي يتم بها الدفاع عن الجنسية الإسرائيلية بالتحديد على أسس إثنية-دينية، مما يجعل من المستحيل أن تكون إسرائيل "دولة لكل مواطنيها". بدا أن هذه النقطة قد غابت عن بال والزر، ولا يسع المرء إلا أن يخمّن السبب. لقد جاءت استجابته في إطار حجة "أنت أيضًا" النمطية، (أو ما يُعرف بـ"التشتيت بالمقارنة")**: ادعى أنه كان متسقًا تمامًا في مواقفه طوال حياته (كما لو أن هذا كان فضيلة في حد ذاته)، وبدلًا من ذلك، وجّه النقد إلى إدوارد سعيد بسبب علاقته بياسر عرفات (كان سعيد مستشارًا شخصيًا ومدافعًا عن رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، حتى عملية السلام في أوسلو خلال تسعينيات القرن الماضي). لكنّ الأكثر خبثًا في نقده كان الاقتباس التالي:
"لم يبذل [سعيد] أي جهد لإشراك الحماسة الدينية للعرب المسلمين المعاصرين، في حين أن "الخروج والثورة" هو على الأقل جهد للانخراط في الحماسة الدينية لليهود المعاصرين. ولكن ربما يكون الانخراط الوحيد المناسب هو المعارضة المطلقة، ورفضٌ -ليس للأصولية فحسب، ولكن أيضًا للتقاليد الدينية بأكملها. بصفته عضوًا في الأقلية المسيحية الفلسطينية، ووجهًا لوجه مع الإسلام الذي يزداد تشددًا باطراد، فإن هذا مسار طبيعي، وربما لا مفر منه، بالنسبة لسعيد -على الرغم من أنني لا أعرف ما إذا كان قد استدعاه علنًا مع رفاقه المسلمين في منظمة التحرير. لكنه ليس سببًا ومسارًا طبيعيًا بالنسبة لي بسبب الطريقة التي تتقاطع بها اليهودية مع ثقافة اليهود وتعرِّفها جزئيا".
بدا والزر هنا وكأنه يقترح أن وضع سعيد كعضو في "الأقلية" المسيحية يحرمه من النوع نفسه من "الاتصال" (بالحركة الوطنية الفلسطينية الذي يتمتع به (والزر) باليهودية وإسرائيل). والآن، بعد أن اختزل السياسة والنقد إلى هوية إثنية-دينية، يمكنه التهرب من جوهر انتقادات سعيد في ما يتعلق بالنهج المخصوص (أو عدم وجوده) لمثل هذا "الانخراط" مع الدين. لم يكن عليه الرد على أسئلة النهج لأن هويته أعفته من مثل هذا الاستجواب، وهوية سعيد السياسية والدينية نزعت منه الأهلية لطرح مثل هذه الأسئلة.
اليوم، تسلط إعادة زيارة المواجهة بين سعيد ووالزر الضوء على الطرق التي تستثمر بها الصهيونية الليبرالية في أبعادها الإثنية-الدينية، وتتنصل منها على حد سواء. من خلال وضع قصة "الخروج" في قلب روايته عن "التحرر الوطني" و"الثورة"، كان والزر يهدف إلى علمنة دروس سردية موسى. لكن ما حدث بدلاً من ذلك كان العكس: "العلماني" (في هذه الحالة دولة قومية معينة، في التاريخ، تسمى إسرائيل) أضفيت عليه القداسة؛ بحيث أصبح مهمة أخلاقية مقدسة. وفي هذا السياق، يصبح من المستحيل بشكل متزايد الحفاظ على التوازن بين كونك ليبراليًا وصهيونيًا في آن معًا، خاصة وأن إسرائيل تصبح أكثر عسكرة وخروجًا على القانون باطراد.
تعتقد الصهيونية الليبرالية (أو الصهيونية الاشتراكية، إذا كان هذا يهم) أنها تستطيع السيطرة على عواقب رغباتها -على سبيل المثال، من خلال التمييز بين "صهيونية مسيحانية" و"صهيونية خروجية"، وجعل الأخيرة تمثل سياسة معقولة وكونية. ومع ذلك، تنهار في النهاية محاولة وضع تمييز دقيق بين الرغبات الإثنية- الدينية "الخيِّرة" و"الشريرة"، لأن الأساس الذي تقوم عليه هذه الفروق يتم التنازل عنه مسبقًا عند أولئك المستعدين لتحمل المخاطر لتحقيق تخيلاتهم. ومع ذلك، بمجرد أن تتحقق هذه التخيلات، يمكن للمثقفين الليبراليين دائمًا إبقاء ضميرهم الصالح سليمًا، لأنهم يستطيعون إسقاط رغباتهم على الآخرين ثم الادعاء بأنهم ضحايا تكرار مأساوي للتاريخ. "كانت نوايانا حسنة".
ولكن، بعيدًا عن الأهمية السياسية المباشرة لهذه الحادثة، أردت أيضًا إعادة النظر في الأسئلة التي طرحها سعيد في ما يتعلق بالمنهج والنقد. ويبقى السؤال مفتوحًا عن الكيفية التي سيؤثر بها الهجوم على غزة على العالمين الأكاديمي والفكري، وما إذا كانت هناك فرصة هنا لتقويض طغيان الحروب الثقافية وسياسات الهوية والنقاشات حول العلمانية. غالبًا ما يُقرأ سعيد على أنه مفكر لما بعد الحداثة، والذي اختزل الحقيقة في لعبة السلطة الفارغة (على الرغم من أنه رفض وقاوم تصنيف "ما بعد الحداثي"). كما تعرض سعيد إلى انتقادات من بعض اليساريين العلمانيين لعدم انتقاده بما يكفي للحركات الإسلامية والخطابات الدينية (وهو انتقاد أثاره والزر أيضًا في مناظرتهما). واتهم كاتب-ناشط سعيد مؤخرًا بـ"الاستشراق" بسبب حساسياته العلمانية.
كل هذه الروايات تفشل في مواجهة خصوصية منهج سعيد النقدي. لقد فعل سعيد أكثر من مجرد تقديم المفردات التي تعين على الملاحة في مناطق هذه الأسئلة. وقدم سوسيولوجيا صلبة للمثقفين، والتي شخصت أمراض الحياة الفكرية والأكاديمية. وقد لا يخلو "النقد العلماني" لسعيد من عيوبه وغموضه، لكنه ربما يمكن أن يساعد أولئك الذين يبحثون عن طريق يتجاوز الطرق الفكرية المسدودة، التي تبدو طاغية الحضور في كل مكان اليوم.
*نادر أندراوس Nader Andrawos: باحث يعمل في الفكر الاجتماعي والسياسي والقانوني. كان سابقا زميلا مقيما لما بعد الدكتوراه في معهد القانون والسياسة العالمية في كلية الحقوق بجامعة هارفارد، ودرس في الجامعة الأميركية في القاهرة وجامعة تافتس. يعكف حاليًا على تأليف كتاب عن العلاقة بين النقد الفكري والاحتجاج والقانون في العالم العربي.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Long Shadow of the Debate Between Edward Said and Michael Walzer
هامش المترجم:
**عبارة "وأنت أيضًا"، هي ترجمة للعبارة اللاتينية "tu quoque"، وتُستخدم للإشارة إلى مغالطة منطقية تُرتكب عندما يرد شخص على اتهام أو نقد بتوجيه اتهام مشابه للطرف الآخر بدلًا من الرد على جوهر النقد نفسه. ويُعرف هذا النوع من الجدل أحيانًا باسم "whataboutery"، أي: "وماذا عن..."؟ حيث يحاول الشخص صرف الانتباه عن الموضوع الأساسي بالإشارة إلى أخطاء أو نفاق مزعوم لدى الطرف الآخر، كأن يقول أحد: "بلدك ينتهك حقوق الإنسان". ويجيب الآخر: "وماذا عن بلدك؟ أنتم أيضًا لديكم انتهاكات"!