خطاب الإخوان.. صعود الكاميرا بدل المنبر*نضال المجالي
الغد
في الأيام الأخيرة اكتشف الأردنيون أن بعض الخطباء لا يحتاجون إلى وثائق أو أدلة أو حتى فكرة متماسكة أو منابر في مساجد يعتلوها؛ يكفيهم قبة من الحصانة وميكروفون مفتوح وقليل من الدراما، ليطلقوا اتهامات بحجم الجبال. أحدهم يلوّح بوجود قواعد أجنبية هنا وهناك، وكأن الدولة الأردنية تخفي قواعد تحت الأرض بانتظار أن يكتشفها “المحقق البرلماني” صاحب الصوت الأعلى.
لا خريطة، لا منطق، وتلويح بورقتين قد يكون محتواهما (سكر، طحين، زيت قلي، بقدونس..)، وآخر لو استخدم منطق حديثه في دعوة خير لإنهاء خلاف لتحقق، ولكن كما كنت أقول داعيا دائما بالهداية والصلاح بحق أحد الأصدقاء: متى سيستخدم ذكاءه في الخير بدل المكر؟ وآخر يمرر ما يخشى قوله بلسانه - فكاشفوه في محافظته كثر- لأخٍ بفكره ومن طينته ليرمي حجرا على مؤسسة وهرمها… فقط في كل حالاتهم نبرة مشتعلة تكفي لتصدر العناوين.
ولأن الخطاب وحده لا يكفي، انتقل المشهد إلى استعراض بصري كامل. كاميرات تصطف أمام المجلس كأنها سجادة حمراء، وخطباء يتقدمونها بثقة نجم سينمائي في ليلة العرض الأول.
ممرات البرلمان تحوّلت إلى استوديو، وملامح الغضب صارت جزءا من “اللوك السياسي”: يدٌ ترتفع، حاجبٌ يُقطّب، جملة تبدأ بـ نحن حماة الوطن! وتنتهي بلا أي تفسير يجعل الوطن يفهم ماذا يحاولون حمايته أصلا.السخرية أن من يقدم نفسه بصورة “الحارس الأمين” هو ذاته من يعتمد على الصوت العالي بدل الحجة، وعلى الإثارة بدل المعلومة. وكأن البطولة تُقاس بالديسيبل، لا بالمسؤولية.
الإسلام الذي يتغنّون بشعاراته حذّر من لحن القول الذي يضلّل، ومن الخطاب الذي يشعل الفتن بين الناس. فكيف أصبح إثارة المجتمع بعبارات ضخمة وادعاءات بلا دليل جزءا من “النصح”؟ وكيف تحوّل رفع الصوت إلى بديل عن رفع الوعي؟ أم أنها كالعادة وسائلهم الحديثة لركوب موجة العصر بالنجاح على المنصات الافتراضية وخلف الكاميرات بديلا للواقع!
المشهد يصبح أكثر طرافة حين يصرّ البعض على الوقوف أمام الكاميرات كل دقيقتين، وكأنهم يطمئنون أن “الصورة خرجت واضحة”: الغضب؟ حاضر. النبرة الحادة؟ موجودة. الشعار الكبير؟ جاهز. وأحدهم يقبّل رأس كبيرهم في صورة من صور الولاء لعقل ولسان حالهم. أما الفكرة… فهي الخيار الوحيد الغائب.
والخطر هنا ليس في الخطبة، بل في ما بعدها. فحين يطلق سياسي بحصانة تُهما كبرى، ويتعامل معها الناس كحقائق لأن الصوت كان عاليا بما يكفي، يصبح الباب مفتوحا لفتنة لا تُغلق بسهولة. صوت واحد يمكنه أن يرفع المعنويات أو يرفع التوتر… والاختيار بينهما ليس لعبة.
وهنا يأتي دور الجهات المعنية: ليس لإسكات الأصوات، بل لوضع حدٍّ لخطاب يتحوّل من نقد إلى إثارة، ومن خلاف سياسي إلى فتيل يشعل المجتمع. لا أحد ضد النقاش، ولا أحد يمنع الرأي، لكن تحويل القبة التشريعية والممرّات إلى منصة بطولات، والكاميرا إلى درع، والصوت العالي إلى سيف… هذا ليس دور ممثلي الأمة.
في النهاية: الوطن لا يحتاج إلى ممثلين يجيدون الظهور، بل إلى ممثلين يجيدون التفكير. ومن أراد أن يكون “حاميا للوطن”، فليبدأ بحماية المجتمع من الضجيج الذي يلبس ثوب الحقيقة والدين وراء ما يخفونه من تبعية نعلن جميعا أن منبعها مرفوض.