عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    19-Jul-2021

ماذا حقق بايدن في جنيف؟

 الغد-جوزيف س. ناي، الابن*

 
كمبريدج ــ عندما عقد الرئيس الأميركي جو بايدن والرئيس الروسي فلاديمير بوتن قمتهما الأولى في جنيف الشهر الماضي، شغلت الأسلحة السيبرانية (الإلكترونية) مساحة أكبر على الأجندة مقارنة بالأسلحة النووية. من الواضح أن العالَـم تغير منذ الحرب الباردة، ولكن ما الذي حققه بايدن، إن كان حقق أي شيء؟
على مدار أكثر من عقدين من الزمن، اقترحت روسيا معاهدة سيبرانية تابعة للأمم المتحدة. لكن الولايات المتحدة ارتأت أن مثل هذه المعاهدة من غير الممكن مراجعتها والتحقق منها. فعلى النقيض من الأسلحة النووية، قد يعتمد الاختلاف بين السلاح السيبراني وغيره من أكواد الكمبيوتر ببساطة على نية الـمبرمِـج.
وبدلا من المعاهدة، وافقت روسيا والولايات المتحدة وثلاث عشرة دولة أخرى على قواعد طوعية، رسمت خطوطها العريضة مجموعات من الخبراء الحكوميين تحت رعاية الأمم المتحدة، والتي تُـحَــرِّم الهجمات على البنية الأساسية المدنية لكنها لا تحظر أعمالا غير مشروعة تُـنَـفَـذ من على أراضي هذه الدول. وعلى الرغم من إعادة التأكيد على هذه المعايير في الأمم المتحدة الربيع الفائت، فإن المتشككين يشيرون إلى أن روسيا، بعد فترة وجيزة من موافقتها على تقرير صادر العام 2015، لم تتورع عن مهاجمة شبكة الكهرباء في أوكرانيا وتدخلت في الانتخابات الرئاسية الأميركية في العام 2016.
على عكس الولايات المتحدة، التي أنشأت القيادة السيبرانية في العام 2010، لم تعترف روسيا رسميا قَـط بامتلاكها قدرات سيبرانية هجومية. وكل من البلدين يخترق شبكات الآخر لجمع المعلومات الاستخباراتية، ولكن من الصعب في بعض الأحيان رسم خط فاصل بين التجسس وإعداد ساحة المعركة. لهذا السبب تقدمت الولايات المتحدة في وقت سابق من هذا العام بشكوى بشأن الهجوم الروسي على شركة SolarWinds الأميركية، وهو الهجوم الذي يُـقـال إنه أصاب على الأقل تسع هيئات حكومية كبرى وأكثر من 100 شركة كبيرة.
حتى وإن كانت المعاهدات الرسمية في مجال الحد من الأسلحة غير قابلة للتطبيق، فربما يظل من الممكن فرض قيود على أنواع بعينها من الأهداف المدنية، والتفاوض بشأن قواعد تقريبية لمواصلة العمل. على سبيل المثال، على الرغم من الاختلافات الأيديولوجية العيقة، تفاوضت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في العام 1972 على اتفاقية خاصة بالحوادث في البحر للحد من السلوك البحري الذي قد يُـفضي إلى تصعيد خطير.
الواقع أن التجسس ليس مخالفا للقانون الدولي، ولن يحظى اتفاق يقضي بحظره بأي مصداقية. ومع ذلك، قد تتفاوض الولايات المتحدة وروسيا بشأن فرض قيود على سلوكياتهما في ما يتعلق بمدى (وليس وجود) عمليات التجسس السيبراني. أو ربما تتفقان على فرض قيود على تدخلهما في العمليات السياسية الداخلية لكل منهما. وحتى إذا لم يتسن التوصل إلى اتفاق حول تعريفات دقيقة، فيمكنهما تبادل بيانات أحادية حول مجالات ضبط النفس وإنشاء عملية تشاور منتظمة لاحتواء أي نزاع.
يبدو أن هذا كان النهج الذي استكشفه بايدن في جنيف. وفقا لروايات صحفية، سَـلَّـمَ بايدن نظيره بوتن قائمة تضم 16 مجالا للبنية الأساسية الحيوية ــ بما في ذلك الطاقة، والصحة، وتكنولوجيا المعلومات، والخدمات المالية، والمواد الكيميائية، والاتصالات ــ التي قال إنها «يجب أن يكون الهجوم عليها محظورا بشكل قاطع».
من ناحية، لم يكن هذا جديدا. ذلك أن ما يعتبره الأميركيون بنية أساسية حيوية كان منشورا منذ فترة طويلة على موقع هيئة الأمن السيبراني على الإنترنت وموقع هيئة أمن البنية الأساسية في الولايات المتحدة. لكن الأمر يختلف عندما يسلم رئيس دولة نظيره مثل هذه القائمة.
بعد الاجتماع، كشف بايدن أنه سأل بوتن كيف قد يكون شعوره إذا دُمِّـرَت خطوط أنابيب روسية بواسطة أحد برامج الفدية الخبيثة، كما حدث مع خط أنابيب كولونيال الأميركي في مايو/أيار من قِـبَـل مجرمين يعملون من روسيا. سيكبد هذا الاقتصاد الروسي تكلفة باهظة، حيث يعتمد بشكل كبير على خطوط الأنابيب لتصدير الغاز الطبيعي. لم ينسب الأميركيون هجوم برنامج الفدية على خط أنابيب كولونيال للحكومة الروسية، لكن خبراء أميركيين ذكروا أن عصابات إجرامية في روسيا تمارس أفعالها كما يبدو دون عقاب طالما أنها لا تهاجم أهدافا روسية.
في مؤتمر صحافي بعد القمة قال بايدن: «لقد نبهته إلى أننا نمتلك قدرة سيبرانية كبيرة. وهو يعلم هذا. صحيح أنه لا يعرف كنه هذه القدرات على وجه التحديد، لكنها كبيرة. وإذا انتهكوا هذه القواعد الأساسية، فسوف يأتي ردنا إلكترونيا بالمثل. هو يعلم هذا». بعبارة أخرى، كان بايدن يشير ضمنا إلى التهديد بالردع إذا استمرت روسيا في انتهاك القواعد الطوعية التي تحظر الهجمات على البنية الأساسية المدنية واستخدام أراضيها لأغراض ضارة. بوتن شخص ذكي، ومن المؤكد أنه سمع الرسالة، لكن تحسن السلوك الروسي يتوقف على مصداقية بايدن.
الواقع أن رسم الخطوط الحمراء قد يكون أمرا صعبا. يخشى بعض المنتقدين أنه من خلال تحديد ما يستوجب الحماية، ربما ألمح بايدن إلى أن مجالات أخرى تُـعَـد أهدفا مشروعة. علاوة على ذلك، يجب أن تُـفـرَض الخطوط الحمراء فرضا حتى تكون فَـعّـالة. ويزعم المنتقدون أن تركيز التحذير كان من الواجب أن ينصب على مقدار الضرر الذي وقع، وليس أين أو كيف حدث.
بالقياس، من غير الممكن أن تطلب من مضيف حفل ما أن يوقف كل الموسيقى؛ بل تحذره بأنك ستستدعي الشرطة إذا ارتفعت الضوضاء إلى حد لا يطاق. يتبقى لنا أن نرى كيف سيفسر بوتن رسالة بايدن، لكن الرئيسين اتفقا على إنشاء مجموعة عمل سيبرانية يمكنها محاولة رسم حدود «التسامح».
يتعين على الولايات المتحدة أن تعلن من جانب واحد عن المعايير والقواعد التي تتعهد بالالتزام بها. وعندما تتجاوز روسيا مثل هذا الخط، يُـصـبِح لزاما على أميركا أن تكون مستعدة للانتقام الموجه، مثل إفراغ الحسابات المصرفية المملوكة لبعض حكام الـقِـلة المقربين، أو إطلاق معلومات محرجة، أو تعطيل شبكات روسية. قد تكون استراتيجية القيادة السيبرانية المتمثلة في الدفاع عند الخطوط الأمامية والمشاركة المستمرة مفيدة للردع، لكنها يجب أن تكون مصحوبة بعملية من الاتصال الهادئ.
تعمل الجماعات الإجرامية غالبا كوكلاء للدول بدرجات متفاوتة، ويتعين على الولايات المتحدة أن توضح أن العمل كملاذ لمجرمي الفضاء السيبراني يُـفضي حتما إلى الرد الانتقامي. ولأن قواعد الطريق لن تكون مثالية أبدا، فيجب أن تكون مصحوبة بعملية استشارية منتظمة تضع إطارا للتحذير والتفاوض. وربما يتضح في الأشهر المقبلة ما إذا كان بايدن نجح في إطلاق مثل هذه العملية في جنيف، أو ما إذا كانت العلاقات السيبرانية الروسية الأميركية ستظل تشكل الوضع المعتاد المزعج.
 
ترجمة: مايسة كامل Translated by: Maysa Kamel
*جوزيف س. ناي الابن أستاذ في جامعة هارفارد ومؤلف كتاب «هل تشكل الأخلاق أي أهمية؟ الرؤساء والسياسة الخارجية من فرانكلين ديلانو روزفلت إلى ترمب».
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2021.