الغد- یتفق الجمیع على أننا نواجھ مشاكل كثیرة، بعضھا قدیم وبعضھا عمیق وبعضھا مركب، وھذه المشاكل تستھلك الكثیر من الجھد والوقت، وتكاد تكون المسیطرة على غالب مساحات الإعلام والحوارات بین الناس.
ولكن الملاحظ أن غالب ھذه الجھود تكاد تنحصر في مربع التشخیص والتحدید للمشكلة، ولا شيء وراء ذلك، ولذلك تبقى المشاكل قائمة، بل وتتفاقم مع مرور الوقت.
بینما لو تتبعنا سیرة الأنبیاء علیھم الصلاة والسلام والصالحین من أتباعھم لوجدنا أن حل المشكلات وتقدیم العلاج ھو جوھر دورھم الإصلاحي في تاریخ البشریة.
بل إن الوحي الرباني للبشریة والمتمثل في الرسالات السماویة إنما كان لھدایة البشریة وحل مشاكلھا ومواجھة العقبات التي تعترض طریقھا وتوجیھھا للقرار السلیم فیما تواجھھ من تحدیات، ویحدثنا القرآن الكریم عن ذلك بوضوح فیما قصھ علینا من تاریخ بدایة البشریة ووجودھم على ُ كوكب الأرض فقال تعالى: ”وقلنا یا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منھا رغداً حیث شئتما ولا تقربا ھذه الشجرة فتكونا من الظالمین* فأزلّھما الشیطان عنھا فأخرجھما مما كانا فیھ وقلنا اھبطوا ُ بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حین* فتلقى آدم من ربھ كلمات فتاب علیھ إنھ ھو التواب الرحیم* قلنا اھبطوا منھا جمیعاً فإما یأتینكم مني ھدى فمن تبع ھداي فلا خوف علیھم ولا ھم یحزنون“ (البقرة: 35-38.( فالوحي الرباني لجنس البشر جاء لیحل لھم مشكلة النزول والإخراج من الجنة بسبب وسوسة الشیطان وتزیینھ -والتي ھي للیوم سبب كل مشاكل البشریة – ویدلھم على طریق السلامة في الحیاة المؤقتة لھم على الأرض ”ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حین“ فنزل الوحي الرباني على رسل الله لیرشدھم لدعوة أممھم لسبیل العودة للجنة في الحیاة الأخرى.
وھذه نماذج من حل المشكلات وتقدیم الحلول في سیر الأنبیاء علیھم الصلاة والسلام والصالحین، فیھا عبرة وعظة لمن أراد، وھذا من أھم الجوانب التي یجب الاقتداء بھا من سیرتھم ”فبھداھم اقتده“. فھا ھو نوح علیھ الصلاة والسلام ینشغل بعلاج المشكلة القادمة (الطوفان) لقومھ بسبب كفرھم با عز وجل ورفضھم دعوتھ وتحذیره ونصیحتھ، بل طلبوا منھ تعجیل العقوبة من الله التي یخوفھم بھا، وعندھا التزم نوح علیھ الصلاة والسلام استمرار الدعوة والتذكیر لقومھ مع تنفیذ بناء السفینة، والتي ھي الحل والعلاج من الطوفان القادم ”واصنع الفلك بأعیننا ولا تخاطبني في الذین ظلموا إنھم َ مغرقون“ (ھود: 37 ،(ولم ییأس نوح علیھ الصلاة والسلام من دعوة الناس للحل والنجاة حتى مع بدء الطوفان وظھور المشكلة عیانا بعد أن كانت تحذیراً، ”ونادى نوح ابنھ وكان في معزل یا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرین* قال سآوي إلى جبل یعصمني من الماء قال لا عاصم الیوم من أمر الله إلا من رحم وحال بینھما الموج فكان من المغرقین“ (ھود: 42-43.( ً وھذا یوسف علیھ الصلاة والسلام -برغم كونھ مسجونا منذ سنوات ظلما وافتراء- إلا أنھ یبادر فیقدم المشورة والنصیحة والحل والعلاج لأزمة اقتصادیة كبرى ستواجھ المجتمع الذي سكت عن ظلمھ! قال تعالى على لسان یوسف: ”قال تزرعون سبع سنین دأبًا فما حصدتم فذروه في سنبلھ إلا قلیلاً مما تأكلون* ثم یأتي من بعد ذلك سبع شداد یأكلن ما قدمتم لھن إلا قلیلاً مما تُحصنون“ .(48-47 :یوسف( ٌ وفي قصة موسى علیھ الصلاة والسلام مع الخضر بیان لأھمیة حل المشكلات وعلاج الأزمات، وأن سعة العلم والاطلاع ركن أساس في تقدیم الحلول والعلاج، فمعرفة الخضر بالسیاسة الظالم ّ للملك في البلد التالي مكنتھ من حمایة سفینة المساكین من المصادرة عبر إلحاق ضرر بسیط بھا، ”أما السفینة فكانت لمساكین یعملون في البحر فأردت أن أعیبھا وكان وراءھم ملك یأخذ كل سفینة غصباً“ (الكھف: 79.(
وفي سیرة النبي صلى الله علیھ وسلم تتجلى ھذه المیزة فیھ بشكل فطري وجبلي، فقبل البعثة حین اختلفت قریش وكادت تتخاصم حین أعادت بناء الكعبة بسبب الحجر الأسود ومن یحوز على شرف َرفعھ ووضعھ في مكانھ، تمكن صلى الله علیھ وسلم بكل سھولة ویسر من حل ھذه المشكلة وحل ھذه المعضلة بطریقة إبداعیة عادلة أرضت الجمیع وحافظت على لحمتھم ووحدتھم، حین بسط الرداء ووضع علیھ الحجر الأسود وطلب من الجمیع التعاون على رفعھ وتقریبھ لموضعھ ثم وضعھ ھو بیده الشریفة في محلھ.
وأخرج المنذري في الترغیب والترھیب أن أحد الصحابة طلب مساعدة مالیة فأرشده النبي صلى الله علیھ وسلم إلى أن یبیع بساطاً في بیتھ بدرھمین ثم أمره أن یشتري بدرھم طعاماً وبدرھم فأساً، ّ ثم أمره أن یذھب للبادیة یجمع الحطب ویبیعھ، ثم یعود لھ صلى الله علیھ وسلم، وبذلك حولھ النبي صلى الله علیھ وسلم من عاطل إلى منتج.
وفي سیرة الصحابة رضي الله عنھم الكثیر من المواقف التي تدل على أنھم من أھل مربع الحلول لا مربع المشاكل أو مربع التشخیص المجرد، فھا ھو سلمان الفارسي رضي الله عنھ یقدم حلا لمشكلة ھجوم أھل الأحزاب باقتراح حفر الخندق، وھذا البراء بن مالك، شقیق أنس خادم رسول الله صلى الله علیھ وسلم، یقدم حلاً شجاعاً ومقداماً لمشكلة تحصن جیش مسیلمة الكذاب في حصن منیع لھم، فیطلب من الصحابة أن یرفعوه على التروس فوق أسنة الرماح ثم یقذفوه داخل الحصن، وفعلاً یتمكن البطل الھمام من فتح باب الحصن من الداخل.
وبھذا یتبین لنا أن الوعي بتقدیم الحلول والعلاج ھو الوعي المطلوب، وھو الذي علیھ یتوقف دوران عجلة الإصلاح وتبدل الواقع والتغییر الإیجابي، وأن الاكتفاء بتشخیص الأمراض والمشاكل لا یكفي، بل ھو مشكلة وعلة بحد ذاتھ.
ومما یحسن التنبھ لھ أن لكل مشكلة حلا، مھما كان نوعھا ومجالھا، ولكل داء دواء، وإنما یتفاوت الناس بمقدار قدرتھم على حل المشاكل وتقدیم البدائل، ومعرفة الحلول والعلاجات للمشاكل الاقتصادیة والإداریة والسیاسیة والاجتماعیة تدخل ضمن عموم قولھ صلى الله علیھ وسلم: ”ما ً أنزل الله عز وجل داء ً إلا أنزل لھ دواء ِ عل ِ مھ من علمھ وجھلھ من جھلھ“ رواه أحمد في المسند وھو صحیح، وعلى ھذا المفھوم العام للداء والدواء أقام الإمام ابن قیم الجوزیة كتابھ (الدواء الكافي لمن سأل عن الجواب الشافي).
وفي الختام؛ فإن السعي -أفرادا وجماعات ومؤسسات أھلیة ورسمیة- للتمركز في مربع الحلول ھو الوعي المطلوب الیوم، وھو السبیل لعلاج كثیر من الآفات والمشكلات والمعیقات التي نواجھھا،ُ وحل المشكلات علم لھ أصولھ وقواعده التي تحتاج إلى أن تضمن في مناھج التعلیم المدرسیة والجامعیة ومناھج التثقیف الدعویة والإعلامیة والحزبیة لتشیع عقلیة الحل والعلاج بدلا من عقلیة التشاؤم والتلاوم التي أغرقتنا عقودا وقرونا طویلة في الآلام والمحن، وبھذا التمركز والتحول لمربع الحلول نكون قد سرنا على نھج الأنبیاء والصالحین.