الأردن في مواجهة التهديدات.. من التشريعات إلى التحديات الجيوسياسية*د. عبير مصلح
الغد
في واحدة من أبرز الضربات الأمنية النوعية، أعلن الأردن مؤخرا عن تفكيك خلية خطيرة كانت تُخطط لتنفيذ عمليات تستهدف الأمن الوطني. العملية ليست معزولة في سياقها، بل تأتي امتدادا لسجل طويل من الجهود الاستباقية في بلد يقع في قلب إقليم مضطرب، ويشكّل نقطة توازن حساسة بين التحديات الجيوسياسية والمواقف الوطنية الثابتة.
و إذا ما اطلعنا على الإطار القانوني لمكافحة الإرهاب في الأردن، فان قانون منع الإرهاب رقم 55 لسنة 2006 وتعديلاته يُعد حجر الأساس في البنية التشريعية الأردنية لمواجهة الإرهاب. وقد تم تعديل هذا القانون في الأعوام 2014 و2016 و2022، في إطار التكيّف مع تطورات التهديدات الإرهابية وأساليبها المتجددة، حيث شملت التعديلات تجريم الالتحاق بالجماعات الإرهابية، وتوسيع مفهوم "الأعمال الإرهابية" ليشمل التحريض الإلكتروني وتمويل الإرهاب.
إلى جانب ذلك، يتضمن قانون العقوبات الأردني في أبوابه المتعلقة بأمن الدولة (من المادة 107 حتى المادة 153) أحكاما تُجرّم الأعمال التي تمس أمن الدولة الداخلي والخارجي، كالمؤامرة، التجسس، التحريض على العصيان المسلح، والتعاون مع جهات معادية.
هذه التشريعات لم تكن حبرًا على ورق، بل تم تفعيلها على أرض الواقع، من خلال أداء احترافي للأجهزة الأمنية والقضائية، خاصة في ما يتعلق بالمراقبة والرصد ومحاصرة الفكر المتطرف قبل أن يتحوّل إلى فعل دموي.
و من تفجيرات الفنادق إلى خلية 2024 عاش الأردن محطات دامية في ذاكرة الأمن فقد تعرض الأردن خلال العقدين الأخيرين لعدد من العمليات الإرهابية التي شكّلت صدمة للرأي العام، ودفعت نحو تشديد المنظومة الأمنية كان من أهمها وأشدها دموية تفجيرات فنادق عمّان عام 2005، التي نفذها تنظيم القاعدة وأوقعت عشرات الشهداء والجرحى، كانت الحدث المفصلي الذي غيّر مفاهيم الأمن في الداخل الأردني.
هذا بالإضافة الى عملية الركبان عام 2016، والتي استُهدف خلالها موقع عسكري على الحدود الشمالية الشرقية، وأدّت إلى استشهاد عدد من الجنود.
وكما كان ايضا اغتيال الرائد راشد الزيود في عملية أمنية ضد خلية إرهابية بمدينة اربد عام 2016 . ولا تخلو أيضاً الحدود الشمالية والشرقية من محاولات متكررة لتسلل عناصر إرهابية أو تهريب أسلحة.
وعلى الجانب الاخر تصدر التصريحات بين الحين واآخر من السلطات الأمنية حول الكشف عن خلايا نائمة مرتبطة بتنظيمات متطرفة خارجية، تعمل ضمن أجندات موجهة تستهدف زعزعة الأمن.
وسط إقليم ملتهب وأحداث متسارعة، تواجه المملكة الأردنية الهاشمية جملة من التحديات المتشابكة التي تختبر صلابة مؤسساتها وتماسك جبهتها الداخلية. من المخاطر الأمنية العابرة للحدود، إلى أعباء الدور الدبلوماسي في أزمات الإقليم، وصولًا إلى الضغوط السياسية المرتبطة برفض التهجير القسري للفلسطينيين، يقف الأردن على مفترق طرق يتطلب قراءة واعية للواقع واستعدادًا دائما للتعامل مع المستجدات.
بداية تواجه المملكة الأردنية الهاشمية تحديات أمنية كبيرة نتيجة للموقع الجغرافي الذي يحيط بها العديد من بؤر النزاع المستمرة. فمن الشمال، تستمر الحدود السورية في كونها مصدرا لمحاولات تهريب الأسلحة والمخدرات، مع تزايد خطر تسلل العناصر المتطرفة التي تحاول استغلال الفوضى في المنطقة. ومن الشرق، شكلت الأراضي العراقية بيئة خصبة لتنامي تنظيم داعش في السابق، ما يزيد من مخاوف تسلل امتداداته الفكرية إلى داخل الأردن. أما من الغرب، فإن التحديات الأمنية تندمج مع أبعاد سياسية، إذ يواصل الأردن موقفه الثابت في مواجهة مشاريع تهجير الفلسطينيين، ويقف بقوة في وجه أي تسوية تتضمن فكرة "الوطن البديل". هذه التحديات المتعددة تتطلب استراتيجيات دقيقة وفعالة لضمان الحفاظ على الأمن والاستقرار في المملكة وسط هذا الوضع الإقليمي المشتعل.
ومن جهة أخرى فإن المملكة الأردنية الهاشمية قادت جهودا دبلوماسية متواصلة لوقف العدوان على قطاع غزة، وهي توصف بانها دبلوماسية محفوفة بالتحديات، فلم يقتصر الدور الأردني على تبني موقف دفاعي تقليدي، بل انخرطت المملكة، بقيادة دبلوماسية حيوية ومتزنة، في جهود متواصلة لوقف إطلاق النار. وقد اتسم هذا الدور بحساسية عالية، كونه يتموضع في منطقة رمادية من التعقيد السياسي والأمني، ويضع الأردن في كثير من الأحيان أمام تحديات مباشرة وغير مباشرة مع أطراف إقليمية ودولية قد لا تتقبل مواقف المملكة المتوازنة أو استقلالها السياسي. ومع ذلك، ظل الأردن ثابتًا على مبادئه، مدفوعًا برؤية استراتيجية ترى في الاستقرار الإقليمي ضرورة للأمن الوطني، وفي الحل العادل للقضية الفلسطينية أساسًا لأي سلام دائم في المنطقة.
لقد شكّل تماسك الجبهة الداخلية حجر الأساس في قدرة المملكة على مواجهة التحديات الإرهابية، فلم يكن النجاح في صدّ التطرف محصورًا في الأداء الأمني، بل تجلّى في معادلة وطنية دقيقة، اجتمعت فيها الحرفية العالية للأجهزة الأمنية التي تعاملت مع الملفات المعقدة بحنكة واقتدار، مع وعي شعبي عميق بخطورة الفكر المتطرف ورفض قاطع لخطابه وممارساته. وإلى جانب ذلك، برز الإعلام الوطني المسؤول كذراع توعوية فاعلة، أسهم في دحض الروايات المضلّلة، والتصدي لحملات التشويه والإشاعات، مما عزز مناعة المجتمع ورفع منسوب الثقة بين الدولة والمواطن. إن هذا التلاحم بين مؤسسات الدولة والمجتمع شكل سدًا منيعًا أمام محاولات اختراق الصف الوطني، وأثبت أن قوة الأردن الحقيقية تنبع من وحدة أبنائه ووعيهم العميق بقيمة الأمن والاستقرار.
في ضوء ما تشهده المنطقة من توترات متصاعدة، تبرز الحاجة المُلِحّة إلى دور أردني ريادي في وقف النزيف الإنساني في غزة حيث أن الحسم السياسي و الدبلوماسي في هذا الملف لا يعد ترفاً ، وهو ما يتوافق مع نهج المملكة الثابت في دعم القضية الفلسطينية والدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني. وانطلاقا من موقعه السياسي والدبلوماسي المؤثر ودوره التاريخي، يبذل الأردن، بقيادة جلالة الملك عبدالله الثاني، جهودًا كبيرة باتجاه إنهاء الحرب على القطاع، مستخدمًا كل أدوات الضغط السياسي والدبلوماسي المتاحة على حلفاء إسرائيل، حتى وإن كان ذلك في مواجهة قوى دولية مؤيدة لإسرائيل. فالمعركة ليست فقط في الميدان الأمني، بل أيضًا في كسب معركة السردية والعدالة وحق الشعوب في الحياة والكرامة، من أجل وقف العدوان وإنهاء المعاناة المستمرة لأهل غزة.
ولا يقتصر هذا الدور على البعد الإنساني أو القومي فحسب، بل يرتبط بشكل وثيق بالأمن الإقليمي وتهدئة الجغرافيا السياسية المشتعلة منذ سنوات، والحد من تداعيات الحرب على الجبهة الداخلية الأردنية التي تشهد تعاطفًا شعبيًا واسعًا مع غزة، وهو ما قد تستغله الجماعات الإرهابية المتربصة لإثارة الفوضى واختراق الأمن الوطني، إذ يشكّل استمرار الحرب بيئة خصبة لنمو الأيديولوجيات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية التي تحاول استغلال حالة الغضب الشعبي والفوضى الإقليمية للتسلل وزعزعة الاستقرار. وعليه، فإن الحسم السياسي والدبلوماسي الذي تقوده عمّان، حتى وإن وقفت وحدها في هذه الساحة، يشكّل صمام أمان ضروري لحماية الداخل الأردني وتحصين الجبهة الداخلية من أي اختراق أو توظيف عدائي للوضع القائم.
وفي السياق ذاته، تؤكد التجربة الأردنية أن محاربة الإرهاب لا تقتصر على الأدوات الأمنية، بل تعتمد أيضًا على منظومة تشريعية متقدمة، وبيئة فكرية تعزز الوعي المجتمعي وترسخ ثقافة الحوار والانتماء. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى تطوير التشريعات الناظمة للأمن الوطني بما يواكب التحديات المستجدة، مع الحفاظ على التوازن الدقيق بين متطلبات الأمن وضمانات حقوق الإنسان.
إن تعزيز الإطار القانوني لمكافحة الإرهاب يجب أن يترافق مع صون الحريات العامة، وترسيخ استقلال القضاء، ودعم الإعلام الوطني الحر، ليكون شريكًا فاعلًا في بناء وعي جمعي منيع أمام الفكر المتطرف. فالمعادلة الناجحة تكمن في دولة قوية تحمي أمنها بقوة القانون، وتحترم مواطنيها بقوة الدستور.
وفي ختام هذا المشهد المعقد، لا يسعنا إلا أن نثمّن الجهود المتواصلة للأجهزة الأمنية الأردنية، التي تعمل بصمت ويقظة لحماية الوطن، ونوجّه تحية تقدير لكل من يسهر على أمننا، متمنين دوام الأمن والأمان للمملكة الأردنية الهاشمية حيث يبقى الأمن الأردني أولوية وطنية لا تقبل التهاون، ويتطلب منا جميعًا أن نكون في صف الدولة؛ جيشًا وأمنًا ومواطنين، حمايةً لجبهتنا الداخلية، وإيمانًا بأن الأردن سيظل، بإذن الله، واحة أمن واستقرار في محيط لا يعرف السكون.