صمود رغم الألم.. "رح نعمرها" توحد غزيين فقدوا منازل تحتضن ذكرياتهم
الغد-رشا كناكرية
"سوف نبقى هنا.. كي يزول الألم.. سوف نحيا هنا.. سوف يحلو النغم".. أنشودة ترافقها مشاهد وثقها غزيون عبر العديد من الفيديوهات التي نقلت للعالم أجمع تجسيدا للواقع الأليم الذي يعيشه أهل غزة منذ اندلاع الحرب الوحشية، تأكيدا لتمسكهم بذكرياتهم وبيوتهم التي لم يجدوا لأنفسهم مكانا بعيدا عن حجارتها المهدمة.
"لو هدوا البيت أنا صامد.. ما برحل"، كلمات رددها حاج فلسطيني بعد قصف بيته وتحوله لحطام، وبضحكة تملأها الغصة، قال: "هذه أرضي وهنا تربيت وبهذا المكان ذكريات شبابي وأيامي"، ورغم ألم الفقد الذي رافق خسارة بيته، ولكنه اختار أن يبقى فيه رغم خطر إعادة القصف ومطالبة الاحتلال الغاشم بمغادرة شمال قطاع غزة، ولكن هذا مكانه فأين يذهب.. فإن كتب له أن يموت سيموت في بيته.. وإن كتب لها العيش ستبدأ رحلة إعادة بنائه من جديد.
وفي مشهد آخر، وثقت عدسات الكاميرا شابا غزيا يجلس على ركام منزله، وهو يتأمل وينظر من حوله، لعله يعيد ذكريات عاشها في ساحته وسط حالة صمت وهدوء ورغم الضجيج والقصف من حوله، لكنه يجلس بأمان على بقايا بيته، وعند سؤاله عن سبب جلوسه هكذا.. جاء رده: "هنا كان بيتي".. ليتبعها بابتسامة ترافقها دموع حسرة وإيمان تجسدت بـ"الحمد لله". وآخر يقف أمام ركام منزله الذي عاش فيه طفولته وشبابه وذكريات حفظتها جدران منزله عن ظهر قلب، وسط عجز وحزن وشعور بالضياع اجتمعت كلها في لحظة بسؤال وحسرة: "وين نروح؟".
وعائلة بأطفالها الستة تعود للعيش بموقع منزلها المهدم، لتقوم بنصب خيمة تحتضن ركامه وجدرانه المهدمة "اشي أحسن من ولا اشي"، فهذا المكان الذي يعرفونه ويألفونه، مرددين: "كيف نغادر ولمين نتركه، هذه أرضنا".
وغزية تبحث في ركام منزلها عما تبقى منه، وعيناها ممتلئتان بنظرات الحيرة والضياع والتوهان، وبصوت خافت ومبحوح تقول "وين كنا مبارح وين نحن اليوم يا رب رحمتك".
في مشهد آخر، تجلس ستينية فوق ركام بيتها المدمر، وتضع يدها على خدها تتحسر على منزل أحبته، وكان ينبض بالحياة والفرح.
قصة وغصة يحملها كل غزي داخله جراء الحرب الوحشية التي أودت بحياة الأبرياء وتدمير المنازل، مشاهد صمود لن نرى لها مثيلا.. وأمل بحياة يتجدد وإيمان كبير بغد أفضل لإعمارها من جديد "رح نعمرها بإذن الله"، رغم أن القلب يعتصر بالفقد والخسارة.
وبدوره، يرى الدكتور الاجتماعي محمد جريبيع، أن إصرارهم على البقاء يعكس رغبتهم في الحياة والصمود والنجاح، مبينا أن كلمة "حنعمرها" التي ترددت على لسان الغزيين تعكس رغبة في النجاح والإرادة والسعادة وإرادة شعبها في الصمود.
ويؤكد أن الشعب الفلسطيني يمتلك قناعة تامة بأن المحتل هو مجرم، ولذلك هو يقصف منازلهم ويتقصد تهجيرهم من أرضهم، ولكن نتيجة لوعيهم التاريخي والسياسي المتزايد والذي تراكم عبر هذه السنين، فإنهم يعملون على إفشال مخطط الاحتلال.
ويوضح أن الغزيين يعتبرون أنفسهم جزءا من مقاومة الاحتلال وردعه، وبالنسبة لهم، فالمقاومة بحد ذاتها هي الدفاع عن الأرض والعرض والشرف، وهم اليوم يواجهون عدوا مغتصبا وكيانا صهيونيا لهم من التجارب معه ذكريات عديدة، ولديهم وعي سياسي عال نتيجة للتجربة التي وقعوا بها، ولذلك يدركون أنهم بمواقفهم هذه يدعمون صورة المقاومة.
ويضيف "الغزيون يعتبرون أنفسهم جزءا من مقاومة العدو، وبالتالي هذا هو الدور المطلوب منهم، فالجميع يعلمون تماما ما يتحدثون به وما يخرج من كلام، وهذا ينم عن وعي وثقافة سياسية عالية عند الشعب الفلسطيني أجمع، ويعلمون أن رسائلهم ستكون مؤثرة على الرأي العام العالمي وستكون مؤثرة حتى على الرأي الداخلي للكيان الصهيوني، وستكون مؤثرة أيضا برفع معنويات المقاومة، وبذلك يمارسون جزءا من دورهم بدعم المقاومة".
ومن جهة أخرى، يذكر جريبيع أن الشعب الفلسطيني لديه قناعة ومعرفة تامة بكل مخططات العدو الصهيونية، ويعلمون أنهم إذا خرجوا من بيوتهم لن يعودوا لها، فأجدادهم من قبلهم عندما خرجوا قبل 75 عاما كانوا يظنون أنهم خلال أيام سيعودون، ولذلك أخذوا مفتاح منزلهم معهم، وجميعنا نعلم ما الذي حدث بعدها.. وعليه لن يكرروا خطأ أجدادهم. ويشير إلى أن هذا الوعي السياسي والتاريخي والترابط القوي بين الشعب الغزي وإدراك دور المواطن يدعم صمود المقاومة، ففي وقت الحروب التي يعيشونها والمقاومات هم يعون تماما أن كل شخص منهم له دور، فهم يشكلون الحاضنة الشعبية والمجتمعية والسياسية للمقاومة بتقديم الدعم والإسناد لها.
ويختتم جريبيع حديثه، بأن الغزيين وصلوا لمرحلة كبيرة من الإيمان واليقين والصمود، فكل بيت غزي فيه شهيد، وهذا الإيمان هو الذي جعل شعوب العالم أجمع تحتشد نصرة له.
وإن كان حطاما أو ركاما أو بقايا بيت لا يشبه الحياة، ولكنها الأرض التي كبروا وعاشوا بين أزقتها، ولعبوا في شوارعها واحتضت بكاءهم وفرحهتم.. فكيف لهم أن يذهبوا عنها وهي جزء منهم، بل هي كلهم.