الغد
يذكرنا ماسيمو بوليدوريدو الكاتب والمحاضر والمحقق الاستقصائي فيما هو غير عادي، والمؤسس المشارك بجماعات الشك المنهجي الإيطالية بالفيلم السينمائي الأميركي « الاقتراح الرذيل»، 1993 (Indecent Proposal) الذي يحكي قصة زوجين شابين وجدا نفسيهما على حافة الدمار المالي بعد خسارتهما لكل توفيرهما في كازينو قمار، وبينما كانا يفكران بمخرج من احتمال التشرد ظهر لهما مليونير منحرف أعجبته الزوجة فقدم لهما عرضاً صادماً لم يخطر على البال: أنني مستعد لدفع مليون دولار لكما مقابل ليلة واحدة فقط أقضيها معها (SI : Vol. 49, No.3, May – June , 2025).
وبالتفكير في العرض هذا اللاعقلاني بدا لهما أنه عقلاني، عادل، فليلة واحدة مقابل خلاص من الديّن وإمكانية استعادة مجدهما الغابر في البزنس فإنه لأمر يصلح للتفكير فيه. لكن ذلك يستدعي احساساً غريزياً بالنفور منه ولأنه في النهاية عرض شديد الإهانة والفظاعة الأخلاقية التي أحس بهما معظم مشاهدي الفيلم. وقد تساءلوا: كيف يمكن للمال تسويغ هذا الأمر الذي يبدو أنه يساوم على الحب الحقيقي؟
لكن هناك من يرى أن العرض منطقي، لأن الوضع البائس للزوجين الشابين يختفي حالاً به، وأن الزواج يمكن أن يستمر بعد تلك الليلة. فحسب تحليل الكلفة/ الفائدة هناك مكسب صافٍ وبخاصة إذا كان التشرد هو البديل. ومع ذلك فإن كثيراً ممن يعرض عليهم مثل هذه الصفقة يشعرون داخلياً أن شيئاً فيها ينتهك قيمة مركزية يتم مسخها بالسعر، فالحب والثقة والأمانة تدوي في دائرة تتجاوز الاقتصاد. لكن أياً كانت الصفقات قد يراها المحتاج صفقة مبتكرة يضيفها إلى صفقاته، ويتباهى بها. يرى عالم النفس فليب تتلوك الذي طرح مفهوم القيم المقدسة، أي القيم العزيزة جداً على الإنسان والتي تتمسك بها الجماعة أو المجتمع لا تستطيعان مقارنتها بالمادة أو بالمصالح الدنيوية كالفلوس، وأنه عندما ينظر الناس إلى مبدأ معين أو إلى كينونة معينة كمقدسين سواء أكانت النظرة عن ولاء رومانسي، أو لحياة فضلى لطفل، فإنهم يعتبرونهما خارج عالم المفاوضات.
ويتساءل ماسيمو بوليدوريدو: لماذا يصبح شيء ما مقدساً؟ فيجيب على هذا السؤال بقوله: « يكمن الجواب في طبيعة الإنسان في الإيمان بخصال عميقة فيه، فعندما نعلن أن شيئاً ما مقدس أو فكرة ما مقدسة، فإننا نضفي صفة الفرادة عليهما أو عدم قابليتهما للإستبدال، وأن لم يكونا فوق الطبيعة. وأنه إذا عمل منها نسخة أو استبدال فإن هالة القداسة تزول عنهما.
إن خاصية التقديس تقوم على الإيمان وليس على دليل أمبريقي/ علمي. إن تجارب الإنسان الميدانية تعكس نزعته الإنسانية لحماية قيم معينة من المنطق البارد للسوق. ويضيف المفكر بروس هود فيقول: طالما اعتبرنا الحياة الإنسانية مقدسة، وأمكنة خاصة فوق أي ثمن أو سعر، وأنه إذا جعل مجتمع ما قيمة مالية لكل شيء بدءاً من العلاقات الحميمية مررواً بالحياة وانتهاءً بالموت، فإن ذلك يدمر الثقة والتعاطف والنسيج الاجتماعي التي تبقي المجتمع متماسكاً. عندما تصبح القيم المقدسة سِلَعاً فإن الفهم المشترك الذي يدعم البنية الأخلاقية للمجتمع يضعف وقد ينهار.
ويرى الفيلسوف تيلمو بيفان أنه تكفي قناعة راسخة بالقداسة لشيء ما أو لفكرة ما عند الإنسان لتكون مقدسة، وإن كانت تبدو لا عقلانية، ولكنها قد تغير مجرى التاريخ. وهكذا نرى أن اللامعقول يمكن أن يصبح معقولاً.