عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    03-Apr-2020

في زمن كورونا بريطانيا تغرق والإعلام يعوّم جونسون.. أَمَجدٌ مؤقت قبل الكارثة بدقائق؟ - ندى حطيط

 

القدس العربي - حتى عندما كان بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطانيّ، مجرّد صحافيّ صغير في يومية يمينيّة لا يقرأها سوى كبار السنّ، لم يكن يخفِ طموحاته ليكون أعظم سياسيّ بريطانيّ في التاريخ، مستلهماً أنموذج معبوده الشخصي وينستون تشرشل.
الأخير – رئيس الوُزراء الذي قاد المملكة المتحدة خلال الحرب العالميّة الثانيّة (1945-1939)، واعتبر بطلاً قوميّاً بعد انهيار النازيّة وسقوط برلين – كان لمع قائداً وطنياً في ظلّ الأزمة وعليها بنى مجده، وفق ما كتب جونسون المؤرّخ – بحكم التّأهيل الجامعي – في سفره الضخم عن سيرة تشرشل، ولذا فلا شكّ أنّه كان يبحث بدوره عن أزمة وطنيّة كبرى تفتح له أيضاً بوابات السؤدد.
ظنّ جونسون أن بريكست ستكون فرصته المنتظرة، فاكتفى بمراقبة تخبّط رئيسته السابقة تيريزا ماي المعلن أمام انقسام البرلمان وانشطار الأمّة حول شكل العلاقة مع الاتحاد الأوروبيّ وانتظر تعاظم الشقّة بين الجانبين، قبل أن يقدّم نفسه مسيحاً مخلصاً للجميع: لإنقاذ حزب المُحافظين الحاكم من سياسة حافة الهاوية وإمكان خسارة السّلطة، والبلادَ من الفرقة والترّقب.
وبفضل التّغطية الشديدة الانحياز لجونسون من قبل الإعلام البريطانيّ وعلى رأسه «بي بي سي» مقابل مرشّح المعارضة جيريمي كوربن، حصل الرّجل في انتخابات ديسمبر/كانون الأول 2019 على أغلبيّة مريحة داخل مجلس العموم مكنته من تشكيل حكومة محافظة خالصة دون تحالفات مقيّدة.
كان أوّل ما تولاه في منصبه الجديد حسم مسألة بريكست وإخراج المملكة (رمزيّاً على الأقلّ) من ربقة حكم بروكسيل مع نهاية المهلة المعلنة لذلك 31 يناير/ كانون الثاني بداية العام.
كانت عند الرّجل أحلام كثيرة لإعادة تشكيل بريطانيا المعاصرة اقتصادياً وسياسياً في طور جديد.
أراد أن يدير ظهره إلى جيرانه الأوروبيين ويستقبل أبناء العم الأمريكيين، مستعداً لأجل ذلك أن يتوّج سنوات من حرب حكومات اليمين على قطاع الصّحة الوطنيّة العام البرّيطاني ببيعه قطعة قطعة لرأس المال الأمريكي، ليخسر البريطانيون بذلك أهم مكسب جماعيّ حققوه لهم من ملوكهم في التاريخ مقابل تدفق رؤوس الأموال إلى جيوب أثرياء البلاد.
 
عن فرحة لم تكتمل: كورونا أطاح ببريكست
 
لكنّ احتفالات جونسون ليلة 31 يناير/كانون الثاني لم تكتمل، إذ أغرقه معاونوه بالتّقارير العاجلة عن وصول حالات أولى فيروس كورونا إلى البلاد والذي كان أنهك الصيّن البعيدة. ثلاث حالات هنا، وحالة هناك، ثم ثلاث أخرى وهكذا رويداً رويداً حتى وصلنا في شهرين إلى حدود الكارثة: أكثر من خمسمئة وخمسين وفاة بالفيروس في آخر أيّام الشهر الماضي وحده، مع تضاعف فلكي في عدد الحالات المسجلة عبر أقاليم البلاد، ناهيك عن حال من التوترّ الشديد تعم أوساط القطاع الطبيّ العام لضعف الاستعدادات، سواء على مستوى تأهيل الفرق الطبيّة أو حتى على مستوى توفير الأجهزة والمعدات والأسرّة اللازمة للتعامل مع الأوبئة.
الخُبراء يقولون إن جونسون ارتكب جريمة موصوفة بسوء إدارته للوباء، إذ تبنى بداية استراتيجية تقبّل انتشار كورونا على نطاق واسع (اعتماداَ على نظريّة مناعة القطيع) لمنح الأجيال الجديدة مناعة ضدّ الفيروس مقابل التضحيّة بمجموعة من كبار السنّ والمرضى الذين هم سيموتون به أو بغيره، على الرغم أن هؤلاء شكلوا الكتلة الحرجة لانتصار جونسون الكاسح في الانتخابات الأخيرة . ولمّا بدت معالم هذه النظريّة بالتفكك تحت تصاعد أعداد الوفيّات، تباطأ في فرض سياسة العزل على مواطنيه على نحو أفقد البلاد أسبوعين كاملين ثمينين من الوقت لمنع انتشار المرض. بل إن الرئيس نفسه أصيب لاحقاً بالفيروس، واضطر للانعزال في منزله وإدارة الدّولة بالريّموت كونترول.
 
جونسون على قمّة جبل الثقة الشعبيّة
 
ومع ذلك، فإنّ ثقة المُواطنين البريطانيين في الرئيس «المُكورن» ارتفعت إلى مستوى تاريخي غير مسبوق (72 في المئة) حسب استطلاعات الرأي مقابل 25 في المئة فقط من غير الرّاضين، كما حصلت حكومته اليمينية، التي كانت شرعت بالفعل بالتفاوض مع الأمريكيين لبيعهم مؤسسة الصحة العامّة على أعلى مستويات الثقة وهم في الحكم (54 في المئة)، بأعلى مما حصلوا عليه وقت انتصارهم على الأرجنتين في الصراع حول جزر المالفين (فوكلاند) عام 1982 الذّي اعتبر قياسياً في وقته.
فكيف يمكن تفسير العلاقة العكسيّة هذه بين الأداء الفعليّ لجونسون مع ارتفاع ثقة المواطنين فيه وفي حكومته؟
للحقيقة أن ذلك الأمر تكرر أيضاً في عدّة دول غربيّة بعد إعلان منظمة الصحّة العالميّة عن اعتبار كورونا وباء عالميّاً، ومنها الولايات المتحدة، التي كانت تشهد مناخاً استقطابيّاً عالياً، ومع ذلك ارتفعت ثقة المواطنين برئيسهم دونالد ترامب. إذ يبدو أن البشر في أوقات الأزمات والحروب ينحون إلى «الالتفاف حول العلم»، حسب تسمية أستاذ العلوم السياسيّة الأمريكية جون موللر، بمعنى تعليق الخلافات السياسيّة والايديولوجيّة، والتوحد حول قيادة مركزيّة. ورغم تعدد الأسباب التي قد تدفع المواطنين لذلك السّلوك، منها ربّما ظهور عدوّ مشترك، أو مطلق الخوف، أو حتى التّفكير العقلاني بالأولويات فإن شخصيّة القائد – وفق موللر دائماً – تصنع فرقاً هنا. في تلك النقطة تحديداً كان دور الإعلام البريطاني عموماً وفي مقدّمته «بي بي سي» – الأكثر مشاهدة عبر البلاد – محوريّاً. جونسون، الذي كان خلال يناير/كانون الثاني – عند نصف البريطانيين على الأقل – أقرب إلى مهرّج، تحوّل بعد انتشار كورونا لرئيس وزراء موثوق بصفة استثنائيّة. فالمحنة المتصاعدة أعادت المواطنين من جديد لمشاهدة تلفزيونهم الوطنيّ بعد 12 عاماً من التراجع المستمر في نسب المشاهدة منذ الأزمة الماليّة العالميّة عام 2008 وما نشأ عنها من فقدان واسع لثقة الجمهور في السّلطات والنخب الحاكمة ووسائل إعلامها الكبرى، ولاحقاً في حالة «بي يي سي» انحيازها الملحوظ لطرف سياسيّ دون آخر – رغم تعارض ذلك مع قانونها وأغراضها كمؤسسة وطنية عامة يدفع المواطنون تكاليفها مباشرة من جيوبهم على أن تحتفظ بمسافةٍ واحدة مع كل فرقاء السّياسة. بثّت «بي بي سي» مباشرة مع إعادة طوال النهار في كل ساعة إخباريّة المؤتمرات الصحافيّة لجونسون التي ظهر فيها كقائد وطنيّ يقود حرب المواجهة مع الغزاة، محاطاً بكولونيالات من العلماء وخبراء إدارة الأوبئة، وموجهاً خطاباً ذا نغمة وطنيّة ظاهرة، يشّع ثقة بقدرة البريطانيين على الانتصار، لكنّه في الوقت ذاته يصارحهم (بالحقائق) عن صعوبة المعركة، وإمكان سقوط شهداء. واستقصدت «بي بي سي» استدعاء أصوات من تخصصات مختلفة للتّحدث عبر شاشاتها حول مسائل مختلفة متعلّقة بالوباء كانوا جلّهم من أنصار الحكومة دعموا سرديّة جونسون، وتجنبوا انتقاده، رغم أخطائه الفادحة. ولمّا أصابه الفيروس تم تقديمه رجلاً حديدياً، يعتزل النّاس حوله كي لا ينقل إليهم المرض، لكنّه من وراء الشاشة كرجل فولاذي يرتدي بذلته الرسميّة وربطة العنق، ويدير الحكومة من مقرّه السريّ، ويقود الحرب بنفسه، وهي بالطبع خدعة تامّة، فالرّجل متعب كما أي رجل مريض، وهو بحاجة للراحة والمتابعة اللصيقة، حتى لو كان الفيروس الذي أصابه من الفئة الأقل شراسة.
 
كورونا ممسكا بمصير جونسون
 
مع التسارع اليومي الهائل في أعداد المصابين والضحايا، واقتراب المنظومة الصحيّة البريطانيّة تدريجياً من حدود استيعابها القصوى، يبدو احتفاظ جُونسون بثقة البريطانيين لما بعد الرّبيع أمراً مستبعداً. إذ تتجه المؤشرات إلى تحوّل الجزيرة البريطانيّة لواحدة من أهم خمس بؤر للمرض في العالم، وسيسقط عشرات إن لم يكن مئات الألوف صرعى، فيما تبدو البيروقراطيّة البريطانيّة أبطأ بكثير في محاولتها إدارة مملكة العزل من سرعة تسرّب الفيروس القاتل، فيما ينزف الاقتصاد لحظياً على نحو قد يعصف بـ 15-25 في المئة على الأقل من الناتج القومي العام مرّة واحدة.
وبدلاً من أن يجد البريطانيون عندها «عَلَماً» يلتفون حوله، فإنهم سينتهون إلى كبش فداء يحملونه أوجاعهم وهزائمهم المتدفقة أمام العدوّ الخفيّ. وقد لا يكون الكبش سوى الزّعيم بوريس جونسون الذي وعدهم بالانتصار. وحينها ستُسدل ستارة تراجيديا شكسبيرية على طموح كان أكبر من الحياة.
 
٭ إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن