الغد
أثارتْ خاصية جديدة أطلقتها منصة X (تويتر سابقا) تتيح الكشف عن أماكن إنشاء الحسابات ضجةً كبيرةً في الولايات المتحدة، بعد أن كشفت أنّ عددًا من أبرز الحسابات السياسية المُؤثرة تُدار من خارج البلاد، رغم ادّعائها الانتماء للداخل الأميركي. هذه الواقعة، وإن بدت في ظاهرها قصّة أميركية، إلّا أنّها تفتح أعيننا بقوةٍ على واقعٍ أخطرَ في العالمِ العربي، حيث تتحوّل منصاتُ التواصلِ إلى مسرحٍ مفتوح لحساباتٍ كثيرة تُدارُ من الخارج، بهدف تأجيج الخلافاتِ بين مُواطني الدُّول العربية وزرع الشّقاقِ داخلَ مجتمعاتها الهشة.
فنحن نتابع في عالمنا العربيّ حساباتٍ تحملُ أسماءً عربية، وتضعُ أعلام دول عربيّة، وتتحدثُ بلهجاتٍ محلية، وتتبنّى خطابًا يبدو في ظاهرهِ «وطنيًّا» و»غيورًا على «المصلحةِ الوطنية»، لكنّها في حقيقتها ليست صوتًا حقيقيًّا لنا، بل امتدادًا لغُرفِ عملياتٍ إعلاميةٍ واستخباراتيةٍ تدار من خارج حدودِ دُولِنا. ولا تكتفي هذه الحسابات بالتّعليق على الأحداث، بل تختارُ لحظات التّوتّر السّياسيّ أو الطّائفيّ أو الاقتصاديّ لتصبَّ الزّيت على النار، وتدفعُ الناسَ دفعًا باتجاهِ الكراهيةِ واليأسِ والتّعميم.
فعندَ وُقوع أزمةٍ بينَ دولتين عربيتين، أو حادثةٍ ذات بُعدٍ طائفيّ أو مناطقيّ، تبدأ هذه الحسابات بنشرِ أكثر الآراء تطرُّفًا من كلا الجانبين، وتُعيدُ تَدويرَ الشَّتائمِ والإهاناتِ وتضخيمها، ويتمُّ انتقاءُ المقاطعِ والفيديوهاتِ التي تثير أشدَّ درجاتِ الغضب، وتُخرَج من سياقِها، وتُضافُ إليها تعليقاتٌ مستفزة، ثم تُدعم بجيوشٍ من الحساباتِ الوهميّةِ التي تعلِّق وتؤيِّد وتشتُم، فيتشكّل انطباعٌ مزيفٌ بأنَّ هناك «إجماعًا شعبيًّا» على خطابِ الكراهيةِ هذا.
وما يزيدُ من خطورةَ المشهدِ أنّ الفتنةَ هنا ليست مُجرّد مشروعٍ سياسيّ أو أمنيّ، بل أيضاً سوقًا مربحة، فمنصات مثل X تقدّم برامجَ أرباح تُكافئُ الحساباتِ ذاتَ التّفاعل ِالعالي، بغضّ النّظر عن نوع المُحتوى. وبالتّالي يصبحُ التّحريض والانقسامُ وسبّ الشُّعوب صناعة مربحة ماليًّا، فكلما زادت الشّتائمُ والتّصعيد، ارتفعتِ المشاهدات، وزاد العائدُ الماليُّ للحسابِ ومن يقف خلفه، وهكذا يتقاطعُ الدَّافعُ الاستخباراتيّ أو السّياسيّ مع منطقِ السّوقِ البارد، فيتحوّلُ تمزيقُ الوعيِ العربيّ إلى «بيزنس» قابلٍ للاستثمار.
وتلعبُ «إسرائيلُ» وغيرُها من القُوى الخارجيّةِ دوراً حيويًّا في استغلالِ هشاشةِ الفضاءِ الرّقميّ العربيّ، فمجتمعاتُنا المُنقسمةُ والمُستنزفةُ بصراعاتٍ داخليّة، تُصبحُ هدفًا مثاليًّا لحسابات تتقمصُ دورَ «العربيِّ الغاضبِ»، لتحويلُ كلّ خِلافٍ سياسيِّ أوْ رياضيّ أو اجتماعيّ إلى صراعٍ هُويّاتي حاد.
لكن يجب أن لا يعمينا التدخل الخارجي عن مسؤوليتنا الداخلية عن هذه المعضلة، فجزءٌ منها يعود إلينا أيضًا، فنحنُ في كثيرٍ من الأحيان نشاركُ من حيث لا نشعرُ في تضخيمِ هذا الخطاب، بإعادةِ نشرهِ والرّدِّ عليه بلغةٍ مُشابِهة، أو اعتباره تعبيرًا صادقًا عما يُفكّر به الآخرُون، وهُنا يُصبحُ الوعيُ الفرديُّ خَطّ الدّفاع الأوَّل في التَّشكيكُ الصِّحّي في هويّةِ الحسابات، والانتباهُ للنّمط المُتكرّر في مُحتواها، وتجنّبُ المشاركةِ في نشرِ ما يمزّقُ النّسيجَ الاجتماعيّ.
ما كشفُته هذه الخاصية البسيطة ينبغي أنْ يُوقِظ فينا مَطلبًا أكبرَ بشفافيَّةً رقميّةً تحمي وعيَنا الجمعيَّ من التلاعبِ المُمنهج، وحتى يتحقق ذلك، سيبقى السُّؤالُ معلقًا أمامَ كلِّ تغريدةٍ أو منشورٍ يُشعلُ نارَ الكراهيةِ بيننا، من يقف خلفها؟ وأيُّ مشروعٍ يخدمُ هذا الغضب المُنفلت؟