سوشيال ميديا -
سعود قبيلات
يُحتَفَلُ، اليومَ، السَّاعةَ السَّابعةَ مساءً، في مادَبَا، بإطلاقِ جائزةِ القصّةِ المكرَّسةِ لاِسْمِ الأديبِ الأردنيّ المادباويّ المعروف الرَّاحل، سالم النَّحَّاس. وفي سياقِ الحفلِ، هذا، سيُعلَنُ اسمُ الفائزِ بالجائزةِ وَيَتمُِّ تسليمُها له، في طقسٍ مُركَّبٍ، يجمع بين الاحتفاءِ بالإبداعِ وبين تخليدِ ذكرى قامةٍ أدبيَّةٍ رفيعة..
اِختلفتُ مع سالم، في السِّياسةِ، أحياناً، واتَّفقتُ معه، أحياناً؛ بيد أنَّنا اختلفنا دائماً، تقريباً، بخصوص العملِ في رابطةِ الكُتَّابِ الأردنيين؛ فقد كان كُلٌّ منَّا ينتمي إلى تيَّارٍ مختلفٍ مِنْ تيَّارَيْ الرَّابطةِ الرئيسين، وكان تيَّارانا يتصارعان دائماً بشراسةٍ على الفوز بأكبر عددٍ مِنْ مقاعِدِ هيئتها الإداريَّة..
وهذا في حين أنَّ ابنَ عمِّه الكاتب والمؤرِّخ المعروف الرَّاحل، الدّكتور سامي النَّحَّاس، كان يصطفّ باستمرار في إطار التَّيَّار نفسِه الَّذي يشملني.
وأتذكَّر دائماً أنَّ الكُتُبَ الأولى الَّتي اشتريتها في حياتي كانت مِنْ «مكتبة فراس» في مادَبَا الَّتي كان يملكها سامي النَّحَّاس، واختار لها اسمَ الطَّيَّار الأردنيّ الشَّهيد فراس العجلونيّ..
مِنْ تلك المكتبة اشتريتُ، وأنا لا أزالُ في مطلعِ عمري، كُتُبَ هيمنجواي، وفيكتور هيجو، ودستويفسكي، وسواها؛ بالإضافة إلى المجلَّتين السُّوفييتيَّتين: المدار، وأنباء موسكو..
وبالمناسبة، الدّكتور سامي هو خال صديقنا الأديب والصّحفيّ المعروف يوسف غيشان.
أعود إلى سالم، لأستذكرَ بعضَ المواقف الاستثنائيَّة الَّتي جمعتنا:
أتذكَّر، على سبيل المثال، أنَّني كنتُ في زنزانةٍ موحشةٍ في مبنى المخابرات القديم، وكان هو في زنزانةٍ أخرى في الطرَّفِ البعيدِ مِنْ صَفِّ الزَّنازين..
وكانت توجدُ، في أعالي الأبوابِ الفولاذيَّة للزَّنازين، طاقاتٌ صغيرةٌ، تُفتَح، مِنْ حينْ إلى حين؛ وتُغلَقُ معظم الأحيان.
ويبدو أنَّ سالمَ سمع صوتي، ذات مرَّة، وأنا أًُكلَّمُ العسكريَّ المناوبَ لأُبلغَه قراريَ بالإضرابِ عن الطَّعامِ، مطالباً بنقلي من الزِّنزانةِ البشعةِ الَّتي كنتُ محشوراً فيها إلى زنزانةٍ أخرى أقلَّ سوءاً؛ فعرف بوجودي في الاعتقال؛ وبعد ذلك بيومٍ ربَّما، ما إنْ فُتِحَتْ الطَّاقاتُ، حتَّى راح يناديني بصوتٍ مرتفعٍ، فرددتُ عليه، وتمكَّنا مِنْ إجراءِ محادثةٍ قصيرةٍ زوّدتُه خلالَها بآخرِ ما كان متوفِّراً لديَّ من الأخبار؛ لأنَّني كنتُ قد جئتُ إلى المعتقلِ بعده.
ولا أزالُ أذكرُ أنَّ مِنْ ضِمْنِ ما أخبرتُه به هو أنَّ عدداً من الزُّملاء في رابطةِ الكُتَّابِ الأردنيين يفكِّرون في ترشيحِه غيابيّاً لرئاسة الرَّابطةِ، تضامناً معه. وهذا حقيقيٌّ، وقصدتُ مِنْ نَقْلِه إليه أنْ أشدَّ أَزْرَهُ، وآتي له بما يُفرحُهُ وهو رهين زنزانتِه. وبدا لي أنَّ هذا قد سرَّه. لكن، سرعان ما جاء العسكريُّ المناوبُ وأَغْلقَ طاقتينا، فأنهى محادثتَنا..
وبعد ذلك، تزاملتُ، لمدَّةٍ غيرِ قصيرةٍ، مع شقيقِ سالم، الرَّفيق وجيه النَّحَّاس، في غرفةٍ واحدةٍ في سجن المحطَّة.. وكان وجيه (ولا يزال) إنساناً طيِّباً، وودوداً، وشُجاعاً. وقد ربطتْ بيني وبينه، وبيني وبين أسرتِه، وبين أسرتي وأُسرتِه، علاقاتٌ طيِّبةٌ جدَّاً.
بعد، خروجي من السِّجن، التقينا، سالم وأنا، في مَعْمَعَانِ صراعاتِ الرَّابطةِ، فَتَواجهنا ضِمْنِ اصطفافات تيَّارينا المتنافسين؛ وكان كُلٌّ منَّا يعملُ بجدٍّ واجتهادٍ مِنْ أجلِ فوزِ قائمتِه في انتخاباتِ الهيئةِ الإداريَّةِ للرَّابطةِ..
لكنْ، للأمانة، عندما أَجْرَتْ إحدى الصُّحُف، معه، ذات مرَّة، بعد وقتٍ قليل مِنْ خروجي من السِّجن، مقابلةً ثقافيَّةً، وسُئل فيها عن الأدبِ الأردنيّ والأدباء الأُردنيين، فإنَّه تعالى على الصِّراعِ المريرِ والمديدِ بين تيَّارينا، وَتَعَمَّدَ أنْ يَذْكرَ اِسْميَ بالخيرِ، ويشيرَ إليَّ بنحوٍ إيجابيّ..
وفي الأشهرِ الأخيرةِ، الَّتي سَبَقَتْ مَرَضَهُ الَّذي حطَّمَه وَلم يَلْبَث أنْ سَلَبَ حياتَه، فوجئتُ به يُهاتفُني، قائلاً إنَّه يُريدُ أنْ يراني..
اِلْتَقينا في مقهى عمُّون في العبدلي، وجلسنا وسطَ أعمدةِ دخانِ السَّجائرِ الَّتي كانت تملأُ المكان. وكنتُ أظنَّ أنَّ هناك أمراً ما جعله يطلبُ لقائي؛ لكنَّني سُرعان ما اكتشفتُ أنَّه لم يكن ثمَّة شيء، وأنَّ اللقاءَ كان مطلوباً لذاتِه؛ فتحدَّثنا حديثاً إنسانيَّاً طيِّباً.. لا علاقة له، لا بالأدب ولا بالسِّياسة.. لكن بدا لي، آنذاك، أنَّ سالمَ كان مهموماً مغموماً، ويملأُ نفسَه شعورٌ طاغٍ بالوحدة..
ثمَّ فجأة، قال لي: ما رأيك أنْ نذهبَ إلى محمَّد طُمَّلَيه..
ومحمَّد طُمَّلَيه كان صديقاً مشتَركَاً لكلينا؛ وبالنِّسبة لي، كان زميلي في الجامعة، ورفيقاً سابقاً لي في الحزب، وكانت بيننا صداقة عمر، ومثلها بين أُسرتينا..
ولذلك، عندما اقترح عليَّ سالم، زيارةَ محمَّد طُمَّلَيه، وافقتُ على اقتراحِه فوراً ورحَّبتُ به..
كان بيتُ محمَّد طُمَّلَيه، آنذاك، في الشميساني؛ وقد وجدناه مليئاً بالأصدقاء والمريدين، كالعادة؛ وكانت تعمُّ المكانَ فوضى عارمة، وشاشةُ التِّلفزيون تبثُّ شريطَ فيديو يتناقضُ محتواه تماماً مع الملامح الجادَّة للنَّاس الموجودين في المكان..
جلسنا، سالم ومحمَّد وأنا، في إحدى زوايا البيت، ورحنا نتبادل الحديثَ.. وبدا لي أنَّ سالمَ كان معنا وليس معنا في الوقتِ نفسِه..
وبعد أَشْهُرٍ قليلة، كان قد دخل طورَ مرضِه الَّذي أفضى في النِّهايةِ إلى رحيلِه الأبديّ..
وعندما أصبحتُ رئيساً لرابطة الكُتَّاب الأردنيين؛ زرتُ سالمَ في بيتِه مع عددٍ مِنْ أعضاء الهيئةِ الإداريَّةِ للرَّابطة وبعضِ الزُّملاءِ الآخرين.. وكان، آنذاك، قد أصبح رهين كُرسيٍّ متحرِّكٍ، وقد أوهنه المرضُ وهناً شديداً.. لذلك، تركتْ تلك الزِّيارة في نفسي انطباعاً أليماً مؤسياً..
بعد ذلك بمدّة، كُنتُ ضمن مودِّعيه في «مقبرة الخلود»، الواقعة على الطَّريق ما بين مادَبَا وبين مْليحْ.. وشاءت الظُّروفُ أنْ أكون مَنْ يُلقي كلمةَ وداعٍ حزينةٍ أمامَ جثمانِه في كنيسةِ المقبرة؛ ومِنْ ضِمْنِ ما قُلتُه فيها:
«نودِّع اليوم، بكلِّ معاني الحزنِ والأسفِ والأسى، إنساناً مميَّزاً؛ إنساناً كان مقبلاً على الحياةِ بأقصى درجات الشَّغفِ، ومتحمِّلاً، في الوقتِ نفسِه، مسؤوليّتَه تجاه أمّتِه ووطنِه بكلِّ ما يتطلّبُه ذلك من الشَّجاعةِ والاستعدادِ للتَّضحيةِ والعطاء.
لقد كان أبو يعرب إنساناً شديدَ الحضورِ في كلِّ المجالات الَّتي اختارَ أنْ يمارسَ دورَه فيها؛ كان أديباً مبدعاً ورائداً، وقد اتَّسمتْ كتاباتُه دائماً بنكهةٍ خاصَّةٍ تميِّزُها عمَّا عداها، وعبَّرتْ بحرارةٍ وحُرقَةٍ عن همومِ شعبِه وطموحاتِه وتطلّعاتِه نحو حياةٍ حرَّةٍ وكريمةٍ وناهضةٍ. وكان نقابيّاً نشيطاً ومتفانياً؛ لا يعرفُ الكللَ ولا يركنُ إلى الرَّاحةِ والهدوء، تاركاً بصماتٍ وآثارَاً جليَّةً في ميدان العمل النّقَابيّ».
في الختام..
سالم النَّحَّاس كان علماً مِنْ أعلام الأدبِ والسِّياسةِ في الأردن، وقد أحبَّ مدينتَه مادبا كثيراً، وكان يعتزُّ بأنَّها مسقطُ رأسِه؛ إلى حدِّ أنَّه جعل كتابَه القصصيَّ الأوَّلَ بعنوان: «وأنتِ يا مادبا»؛ ولا أزال أتذكَّر، مِنْ مشاهدِ إحدى قصصِ ذلك الكتاب، اليدَ الغامضةَ الَّتي كانت تُلوِّحُ مِنْ أحدِ شبابيك الباص المتَّجهِ مِنْ مادبا إلى عمَّان، وكأنَّها تريدُ أنْ توصلَ رسالةً سِريَّةً سِحريَّة ما.. الأمر الَّذي ترك في نفسِ راوي القصَّةِ (ويتركُ في نفسِ القارئِ أيضاً) حيرةً شديدةً لا تنطفي.