مشروع لإعادة التوازن.. شرط ألا تلتهمه البيروقراطية *مالك العثامنة
الغد
إطلاق الحكومة لمشروع مدينة عمرة لم يكن مجرد إعلان عمراني عن توسع جديد شرق عمان، بل يمكن قراءته كمؤشر على تحرك سياسي اجتماعي أعمق، تحرك يهدف إلى إعادة ضبط الإيقاع الداخلي بعد سنوات من الضغط والتفاوت وارتفاع الكلفة على المدن التي لم تعد قادرة على حمل مزاج الناس ولا حاجاتهم، فالمشروع، كما يظهر في خطوطه الأولى، ليس مجرد هندسة للأرض وحسب "وهي أراضي خزينة عامة هي رأسمال الدولة الأكبر في المشروع"، بل هندسة لبيئة اجتماعية تبحث عنها الدولة منذ وقت طويل.
الطبقة الوسطى التي تآكلت بفعل الازدحام وضيق الفرص وارتفاع تكاليف السكن تشكل جوهر هذا المشروع، والدولة تعرف أن هذه الفئة هي الضامن الأول للاستقرار، وأن تراجعها خلال العقد الأخير انعكس مباشرة على المزاج العام، لذلك تبدو عمرة كمساحة جديدة لإعادة إنتاج هذه الطبقة، من خلال مدينة مخططة، أوسع وأقل ازدحاماً، خدماتها قريبة، ومدارسها ومراكزها الصحية جزء من تخطيط مسبق لا من حل إسعافي. وهذا بحد ذاته مدخل لإعادة بناء الثقة بين الناس ومؤسساتهم.
وتعمل الهندسة الديموغرافية هنا بطريقة هادئة وغير صدامية، فإعادة توزيع السكان لا تأتي عبر قرارات فوقية بلا دراسات متعددة ومتشابكة، بل عبر خلق جاذبية عمرانية جديدة، بيئة حياتية أقل كلفة وأقل ازدحاماً، وخيارات سكن وفرص عمل تبتعد عن مركز الثقل المرهق في عمان، وهذا النوع من التحريك الجغرافي ينتج أثراً سياسياً مباشراً، لأنه يخفف الاحتقان الذي ولدته الجغرافيا الضيقة، ويمنح الناس فضاء أوسع للحياة اليومية.
وبالموازاة مع ذلك، تبدو الهندسة الاجتماعية جزءاً من مشروع أوسع، فمشروع مدينة "عُمرة" ليست محاولة لبناء مدينة للنخب، ولا لخلق مركز سياسي بديل (وهي تهم ستجد طريقها كزوابع في فناجين الفضاء الإلكتروني)، بل فضاء لمجتمع جديد أكثر توازناً، حيث تتعادل الفرص وتقترب الخدمات ويستعيد الناس قدرتهم على التوقع، وعندما تعود الطبقة الوسطى إلى النمو الطبيعي تبدأ الحياة السياسية نفسها بالهدوء، لأن الاستقرار الاجتماعي هو الشرط الأول لأي استقرار سياسي مستدام.
ووسط هذا كله، ستظهر موجات تشكيك واسعة بلا معنى حقيقي، أصوات ستتعامل مع المشروع كفكرة خارج السياق، أو كمحاولة لا داعي لها، أو كخطوة تهدف إلى إلهاء الناس، وهذه موجات متوقعة في بلد يتفاعل بسرعة مع كل جديد، لكنها موجات قصيرة النفس، لأنها لا تقدم بديلاً، ولا تعالج أزمة السكن، ولا تخفف الضغط على عمّان أو الزرقاء (المدينة المتهالكة فعلياً)، ولا تملك تصوراً للسنوات المقبلة، والاعتراض بلا رؤية سيتحول بسرعة إلى ضجيج، بينما يحتاج مشروع بهذا الحجم إلى نقاش هادئ، لا إلى شكوك مسبقة أو أحكام جاهزة.
تحريك مركز النمو شرقي العاصمة ليس مجرد قرار فني، بل إعادة رسم للخريطة الاجتماعية والاقتصادية، بحيث لا تبقى الحياة محصورة في بقعة واحدة، وإذا نجحت "عُمرة" في تقديم نموذج مختلف، سيتغير شكل العلاقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، ليس عبر خطاب جديد، بل عبر واقع معيشي يشعر فيه الناس أن يومهم صار أخف وأكثر قابلية للحياة.
عمرة، في جوهرها، ليست مدينة جديدة فقط، بل محاولة لإعادة بناء الداخل الأردني بهندسة هادئة، سياسية في خلفيتها، اجتماعية في وظيفتها، واقتصادية في نتائجها. وإذا التزمت الدولة بروح المشروع، فقد تصبح مدينة عمرة نقطة التوازن التي احتاجتها البلاد طويلا.