عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    11-Nov-2025

عمان... نيويورك... والعودة إلى الحلم* رنا حداد
الدستور - 
عند الهبوط في مطار جون إف كينيدي، شعرت أنني أهبط في قلب العالم لا على أرضه. كل شيء في نيويورك يتحرك بإيقاع خاص، لا يشبه أي مكان آخر. الخريف هناك ليس مجرد فصل، بل لوحة من اللهب الهادئ؛ الأشجار تتزين بألوان البرتقالي والنحاسي والأحمر، والهواء البارد يحمل دفئًا غريبًا، يشبه دفء المفاجأة. لم تكن الرحلة عادية، بل أشبه بعبور إلى زمن آخر، حيث كل زاوية تروي حكاية وكل وجه يحمل خلفه قصة ما.
 
في الأيام الأولى، كان الفضول سيد المشهد. كوني آتية من «الشرق»، كانت النظرات والأسئلة تحمل مزيجًا من الدهشة والاحترام. الأميركيون في نيويورك مشغولون دائمًا، لكنهم لا يترددون في السؤال عندما يشعرون أن أمامهم قصة تستحق الإصغاء. «من أين أنتِ؟» يسألون، وحين أقول «من الأردن»، تتفتح العيون بدهشة صادقة: «البتراء! وادي رم! البحر الميت!»، كلمات تُقال بنبرة إعجاب حقيقي. لم تكن تلك مجرد محادثات عابرة، بل رغبة حقيقية في الاكتشاف، وكأنهم يبحثون عن جزء مفقود من العالم في صحراء بعيدة.
 
ما شدّني أكثر هو الحديث عن «سياحة التقاعد». هناك، في نيويورك، كثيرون يبحثون عن أماكن هادئة يقضون فيها ما تبقى من العمر بعيدًا عن صخب المدن. يتحدثون عن الرغبة في البساطة، في الحياة القريبة من الطبيعة. وجدت نفسي أتحدث عن الأردن كما لو كنت أروّج لحلم جميل: عن دفء الشمس في العقبة، وعن الهدوء الذي يلف وادي رم عند الغروب، وعن الناس الذين يبتسمون بصدق. شعرت للحظة أن بلدي الصغيرة قادرة على أن تكون ملاذًا للعالم، مكانًا يلتقي فيه السلام مع المغامرة.
 
لكن وسط كل هذه الحيوية، كنت أعود في المساء إلى نفسي. في ضجيج الشوارع وازدحام المترو وأصوات الأبواق، كنت أستحضر صور عمان. رائحة القهوة في الصباح، بائع الخضار وهو ينادي بلكنته المحببة، صمت المساء حين تتلون سماء العاصمة بالبرتقالي. هناك، في أقصى الغرب، أدركت كم نحن مرتبطون بأماكننا الأولى، مهما ظننا أننا تجاوزناها.
 
نيويورك منحتني دهشة الاكتشاف، لكن الأردن منحني المعنى. فالسفر لا يُعلّمنا فقط عن الآخرين، بل يكشف لنا عن أنفسنا. حين نبتعد، نرى أوطاننا بعيون أكثر حنانًا، ونفهم أننا لا نحمل جواز سفر فحسب، بل نحمل ذاكرة كاملة من الأصوات والروائح والوجوه.
 
حين عدت، لم أعد كما غادرت. أحسست أنني جئت من مدينتين، لكل واحدة فيهما وجه يعكس الآخر. عمان ونيويورك... كلاهما مدينتان لا تنامان، لكن واحدة منهما تُربت على القلب والأخرى توقظه. وبينهما، مساحة صغيرة من الحنين، هي الوطن الذي نحمله أينما ذهبنا.