عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    12-Jun-2025

جامعات من زجاج: حين تلبس الحضارة روب التخرج وتنسى الإنسان*ا. د. هاني الضمور

 الغد

في زوايا هذا الوطن العربي الكبير، تلمع واجهات مبانٍ حديثة يُقال عنها إنها “جامعات”. تُشبه المعابد المستقبلية، تُبهر العين بواجهاتها الزجاجية اللامعة وحديدها المصقول، تفتح أبوابها كل صباح للآلاف من الداخلين، طلابًا وأساتذة، طامحين وطامعين. لكنها – رغم شفافيتها المعمارية – تخفي خلفها الكثير من العتمات: عتمة الفكر، وغموض الغاية، وغربة الإنسان عن نفسه.
 
 
هذه ليست مقالة عن مكان بعينه، بل عن صورة تتكرر، عن إحساس مشترك يعيشه كثيرون ممن عبروا عتبات هذه الجامعات العربية. فبينما تتنافس المؤسسات على التصنيفات، وتحتفل بالأرقام والمخرجات، يغيب السؤال الأكبر: ماذا عن الإنسان؟
 
لقد باتت الجامعة في كثير من دولنا تُشبه “مدينة من زجاج” – كل شيء فيها مرتب بدقة، يُدار بمعايير رقمية صارمة، يُقاس ويُراقب ويُوثق. لكنها – في المقابل– تفتقر إلى حرارة الروح. الطالب فيها يسير بين الجدران لا ليكتشف ذاته، بل ليُنجز مهمة، ليجمع ساعات الاعتماد ويبحث عن أعلى معدل يُرضي السوق. يسأل: “كم بقي لي من مواد؟ متى سأتخرج؟”… لكنه نادرًا ما يسأل: “من أنا؟ ولماذا أتعلم؟ وأي أثر سأتركه؟”
أما الأستاذ، فغارق في بحر من المهام الإدارية، والنشر الأكاديمي، ومطاردة “الربع الأول” في الدوريات. يُنجز، يُدرّس، يُقيّم، لكنه غالبًا ما يفتقد المساحة التي تُمكّنه من التوقف والتفكر: “هل أحدثتُ فرقًا؟ هل ساعدت طالبًا على التفكير؟ هل ساهمتُ في صناعة إنسانٍ أو رؤية؟”
ما يجري ليس مجرد خلل في الإدارة أو قصور في البنى. إنها أزمة فلسفة، أزمة في النظرة إلى الجامعة ودورها. لقد تحوّلت – في حالات كثيرة – من مؤسسات حيوية لصناعة المستقبل، إلى ماكينات ضخمة تُفرّخ شهادات وتُنتج مخرجات لا روح فيها، ولا سؤال فيها عن الحضارة.
نُنجز الكثير على الورق: أبحاث، مؤتمرات، خطط استراتيجية. لكنها – في الغالب – معرفة معزولة عن واقع الأمة، لا تطرح أسئلة جوهرية، ولا تُلامس أوجاع الناس، ولا تُشعل نار التغيير. كأن الجامعة استوردت النموذج الغربي كاملاً… لكنها نسيت أن تستورد “الروح”.
حين غاب الإيمان بالرسالة، غابت البوصلة. لا أتحدث هنا عن الإيمان بالمعنى الديني الضيق، بل عن ذلك الإيمان العميق بأن العلم عبادة، والجامعة مشروع حضاري، والبحث العلمي مسؤولية أخلاقية تجاه الأمة. الإيمان بأن التعليم ليس طريقًا للوظيفة فقط، بل طريقًا لبناء الإنسان.
في خضم هذا الواقع الرمادي، ما يزال هناك جمر تحت الرماد: أساتذة يؤمنون برسالتهم ويضيئون في صمت، وطلبة يقاومون موجات التبسيط والتسليع ويبحثون عن معنى أعمق. أولئك هم الأمل الحقيقي، وهم النواة التي يمكن أن تُعيد للجامعة صوتها، وللتعليم روحه.
نحن لا نحتاج إلى ثورة صاخبة، بل إلى عودة هادئة إلى الجذور. إلى قاعات لا تكتفي بتلقين الإجابات بل تُنجِب الأسئلة. إلى مكتبات فيها كراسٍ متهالكة… لكن كتبًا حيّة. إلى أساتذة يرون في الطلاب بذورًا لا ملفات، وطلاب يرون في العلم خلاصًا لا مجرد وثيقة.
عندها فقط، لن تبقى الجامعة مبنى من زجاج.
بل ستُصبح صرحًا من معنى.