عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    01-Aug-2025

سقوط حزب – 3| م. عامر البشير

عمون

م. عامر البشير

 
حزب يبحث عن روحه… بين شرعية الشكل وبطلان الجوهر
 
حين يُزاح الستار، ندرك أن الديمقراطية ليست صناديق اقتراع مرصوصة ولا أوراقًا مختومة بأختام رسمية، بل هي روحٌ حيّة تتنفس بالعدالة، وتنهض على الشفافية، وتستمد قوتها من إيمان الناس، لا من شهادات تُوزّعها أمانات عامة لاحزاب.
وما جرى في أروقة حزبٍ يدّعي المدنية لم يكن سوى شاهدٍ صارخ على كيف يخدع الشكل، ويُغتال الجوهر باسم الإجراءات.
 
طعون لم تكن عابرة
 
لم يكن الاعتراضات نزوة عابرة ولا محاولة لتحصيل مكاسب شخصية، بل دفاعًا عن معنى بدأ يتسرب من بين الايادي، للحفاظ على الحزب كبيتٍ جامع، مؤسسة تُبنى على تكافؤ الفرص لا على احتكار متلفّع بثوب الشرعية الشكلية.
 
التقدّم بطعن إلى الهيئة المستقلة للانتخاب، لم يكن العبث في النظام الأساسي فعلًا عابرًا في سياق الخلافات الداخلية، بل كان أشبه بحلقة مقصودة وطعنه في صميم الفكرة التي قامت عليها التجربة الحزبية، إنهم لم يسقطوا حزبًا… بل خانوا فكرة، فذلك التشويه لم يكتفِ بتقويض النصوص، بل مهد الطريق لارتكاب مخالفات جسيمة، كي تُستكمَل أركان الجريمة بحق الشرعية، ويُغتال فيها المشروع الحزبي لا بقرارٍ معلن، بل بتسلسلٍ خفيّ ودمٍ بارد يتدرّج من إفراغ المعنى إلى مصادرة الروح، وهكذا، تحوّلت الشرعية إلى قشرةٍ هشة تُرفع كشعار، فيما الجوهر يُنهش باسم الإجراءات، لتبقى النتيجة حزبًا فاقدًا لمعناه، مشوّهًا في صورته، ومغتربًا عن رسالته الأولى.
 
فالمخالفات لم تكن تفاصيل عابرة، بل سلسلة ممنهجة، عضويات أُلغيت بقرارات انتقائية، وأعضاء احتياط استُدعوا دون نصاب، وأصوات باطلة أُدرجت، وآخرين حُرموا من حقهم في المشاركة، احداث موثّقة وليست روايات، تحوّلت الديمقراطية إلى مشهد مسرحي، يُطلب من جمهوره التصفيق، لكن يُمنع عليهم النظر خلف الستار.
 
سياسة الكيل بمكيالين
 
أشدّ ما كشف العوار كان حين أُلغيت عضوية زميل بحجة الغياب، فيما تُرك آخرون—متغيبون مثله—دون إجراء، أي عدالة هذه التي تُفرّق بين متساويين، إن لم تكن عدالة مفصّلة على مقاس المصالح الضيقة؟
 
بين نص القانون وروح الممارسة
 
الأدهى أن اثنين من المشاركين بالتصويت كانوا قد فقدوا أهلية عضويتهم بقرارات رسمية من مجلس الوزراء، وأُخطرت الهيئة المستقلة بذلك خطيًا قبل المؤتمر، ومع ذلك، سُمح لهما بالتصويت، فيما حرم اخرين من التصويت، وبهذا حضر القانون نصًا وغاب ممارسةً؛ فأصبح ورقًا بلا روح، وشرعية بلا حياة.
 
تعديلات فرّغت الحزب من مضمونه
 
لم تتوقف المخالفات هنا، بل امتدت لتستبعد ممثلي اللجان الذين كان ينبغي انتخابهم قبل المؤتمر، ولتقصي أعضاء باستقالات شفهية باطلة، ولتوسّع المكتب التنفيذي عبر تعديلات مشبوهة على النظام الأساسي، لم تكن إجراءات إدارية عابرة، بل عملية مدروسة لخلط الأوراق، وتحويل الحزب من فضاء للتعددية والحوار إلى أداة يضمن بها تيار واحد هيمنته على الجميع.
 
المعركة ليست ضد أشخاص… بل ضد منطق
 
فهل يبقى للحزب معنى بعد أن جُرّد من جوهره؟ وهل تكفي الشرعية الشكلية لستر الجرح الغائر في جسد تجربتنا الديمقراطية الهشة؟
إنها ليست معركة ضد أفراد، بل مواجهة ضد منطق يحوّل السياسة إلى واجهة بلا لب، وصورة بلا مضمون، السكوت هنا ليس حيادًا، بل صكّ يُمنح للباطل ليكتسي ثوب الشرعية، ويُسجّل سابقة خطيرة في تاريخ الحياة السياسية الأردنية.
 
حزب أُفرغ من الداخل… بتعديلات ناعمة
 
سيكتب التاريخ أنهم خانوا حين عدّلوا، وسقطوا حين صمتوا، لم تكن تعديلات طفيفة، بل اغتيالًا كاملًا للفكرة، وللشرعية، وللمعنى ذاته.
 
الحقيقة لا تولد في المؤتمرات
 
في دهاليز السياسة، لا تُولد الحقيقة في قاعات المؤتمرات ولا في وقع الخطب الرنانة، بل في أول لحظة صادقة حين يلتقي الضمير بالنوايا، الحقيقة ليست زينة لفظية ولا خلفية لصور تذكارية، بل شرارة تشعل الحركة، وعمود فقري يصونها، وبوصلة تهديها عند الضياع.
 
الحقيقة تُخنق في الظلال
 
لا تُقتل الحقيقة في الساحات المفتوحة، بل تُخنق بصمت في الزوايا المظلمة؛ حين يتلعثم العقل، وتُحبس الكلمات وراء جدران "الواقعية"، ويتسلل الغدر متلفّعًا برداء "التكتيك"، كما يتسرب الدخان عبر شقوق الجدران.
 
الفكرة لا تموت
 
الطعون لم تكن مجرد إجراء قانوني، بل موقف أخلاقي، محاولة لإنقاذ الحزب من أن يتحول إلى ظل بلا روح، فالأحزاب، كالأوطان، لا تُبنى على الصفقات، بل على الثقة؛ ولا تحيا بالمظاهر، بل بالمعنى الذي يجمع أبناءها في مشروع أوسع من ذواتهم.
ولعل ما نعيشه اليوم، على قسوته، ليس سوى مخاض ولادة ثانية—أكثر صلابة ونضجًا—تستعيد السياسة معناها، والديمقراطية كرامتها، والمواطن ثقته بأن صوته قيمة لا ديكور.
قد ينهار الشكل، لكن المعنى لا ينهار، والفكرة، مهما خُنقت، ستعود لتنهض من جديد.
 
من تحت ركام الخيانة… ستنهض الفكرة
 
اليوم، وإن غُيّبت تحت ركام الخيانة، فإنها ستنهض، بوهج أنقى، ولهيب أصدق، تحمل شتات الحلم وتبنيه على جذور النية الأولى، فالأفكار الحية لا تُهزم، هي تعبر الزمن، وتواجه خيانة من ادّعوا يومًا أنهم "رفاق"، وتمضي بأسماء جديدة، وعلى جبهات جديدة، بالبوصلة ذاتها: الكرامة، الحرية، الديمقراطية، والصدق مع النفس.
لا حزن على من ضلّ الطريق، ولا يأس من اللحظة، فالفكرة التي اشتعلت يومًا في قلب المخلصين ستعود أقوى، أنقى، وأقدر على الخلق من جديد.
لأنها فكرة، لا شخص—والأفكار لا تموت.
 
أخيراً
 
إن ما حدث لم يكن مجرّد خلاف حزبي ولا زلّة إجرائية، بل خيانة موصوفة للمعنى الذي به تقوم الأحزاب وتنهض الأوطان. لقد سقط الشكل، وتهاوى البناء، لكن الفكرة باقية، ترفض أن تُدفن تحت ركام المصالح الضيقة.
 
سيقولون إننا خسرنا الجولة، لكننا في الحقيقة كسبنا المعنى، إذ حفظنا للفكرة نقاءها من أن تُستباح، وللتجربة كرامتها من أن تتحوّل إلى سوقٍ للمساومات.
 
وما نراه اليوم ليس نهاية، بل بدايةُ ولادة جديدة؛ ولادة حزبٍ لا يسكنه الخوف، ولا تُمسك زمامه أيادٍ مرتعشة، بل يُشيّده المخلصون بصلابة الإيمان بعد أن انكشف الزيف وانفضح الادّعاء.
 
إنهم أسقطوا حزبًا… لكنهم لم يسقطوا الفكرة.
والفكرة ستنهض من جديد، في وجدان كل صادق، وعلى ألسنة كل مؤمن بالكرامة والديمقراطية، لتكتب فصلاً أخيرًا لا يُشبه ما سبق، وستبقى الحقيقة بوصلة المخلصين
 
يتبع… في الحلقة الرابعة والأخيرة من سقوط حزب