حين تتكلم الأرقام.. دراسة لأهم معهد ألماني*إسماعيل الشريف
الدستور
لم تكتفِ ألمانيا بدعم الإبادة في غزة، بل أسهمت في تمكينها،- أومير بارتوف، مؤرخ يهودي أمريكي متخصص بالهولوكوست.
أصدر معهد ماكس للبحوث الديموغرافية، وهو أهم مؤسسة بحثية ألمانية في هذا المجال، دراسة كشفت رقمًا مفزعًا لعدد الشهداء الحقيقي في غزة، مؤكدة أن الحصيلة لا تقلّ عن مئة ألف شهيد خلال عامين من الإبادة، وقد تراوحت تقديراتها بين 112 ألفًا و126 ألفًا. وتبيّن البيانات أن أكثر من ربع الشهداء من الأطفال دون الخامسة عشرة، وأن النساء يشكلن ما يقارب 24% من الضحايا، فيما كانت الغالبية العظمى من المدنيين غير المنخرطين في أي نشاط عسكري أو مسلح. ويخلص التقرير إلى أن ما جرى في غزة لا يختلف كثيرًا عن أنماط الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، كما وثّقتها الأمم المتحدة.
وتتوافق نتائج الدراسة مع الرسالة التي وجّهها أطباء أمريكيون إلى الرئيس بايدن في أكتوبر 2024، محذرين من أن عدد الشهداء قد يصل إلى 118 ألفًا، فيما قدر باحثو الصحة العامة في مجلة ذا لانسيت عدد الضحايا بـ186 ألفًا، وهو رقم يشمل المفقودين والضحايا غير المباشرين؛ أولئك الذين ما زالوا تحت الأنقاض، وتتناقل أسرهم روايات موجعة عن أحبتهم الذين لم يُعرف لهم أثر، بينما يقدَّر حجم الركام في غزة بما يقارب خمسين مليون طن، وتتوقع الأمم المتحدة أن إزالته قد تستغرق عشرة أعوام كاملة.
ومع ذلك، فإن الإبادة لا تُقاس فقط بعدد الجثث. فخبراء القانون الدولي يؤكدون أن جريمة الإبادة قد تُثبت حتى دون سقوط قتيل واحد إذا كان الهدف هو تدمير جماعة بشرية كليًا أو جزئيًا، وبحسب اتفاقية منع جريمة الإبادة لعام 1948 تُعد أفعالًا إباديّة صريحة كل ما يستهدف القضاء على جماعة قومية أو دينية أو إثنية، سواء عبر إلحاق الأذى الجسدي أو النفسي بأفرادها، أو فرض ظروف معيشية تقود إلى هلاكهم كالحصار والتجويع ومنع العلاج، أو عبر منع الإنجاب والفصل القسري بين الأزواج، أو بنقل الأطفال قسرًا من أسرهم، إضافة إلى أي فعل يهدف إلى محو الجماعة ثقافيًا أو اجتماعيًا أو بيولوجيًا. وهكذا يصبح السؤال الصحيح ليس: كم قُتل؟ بل: هل كان الهدف محو الجماعة؟
تكتسب هذه الدراسة وزنًا إضافيًا حين ندرك أنها صادرة عن المعهد ذاته الذي فصل الباحث غسان هاج العام الماضي بعد حملة تشويه إعلامية قادتها صحيفة «دي فيلت» على خلفية منشورات قال فيها إن ما يجري في غزة إبادة جماعية يرتكبها الكيان. ورغم استمرار المعهد في الحفاظ على علاقاته مع الكيان، فقد أصدر تقريرًا موثقًا بالأدلة يكشف حجم الإبادة بصورة علمية دقيقة، الأمر الذي يجعل نتائجه مضاعفة التأثير والحجة.
واستنادًا إلى هذه البيانات، يتبين أن أرقام وزارة الصحة في غزة، التي كانت محل تشكيك دائم، لم تكن صحيحة فحسب، بل كانت أقل من الواقع. وهو ما يفتح الباب أمام توجيه اتهامات مباشرة لقادة ومسؤولين غربيين خففوا من وطأة الجرائم، ووصفوا الضحايا بأنهم «خسائر جانبية»، أو ادّعوا أن فصائل المقاومة استخدمت المدنيين دروعًا بشرية. كما تكشف الدراسة حجم تورط وسائل الإعلام الغربية في التستر على الإبادة، إذ لو قامت بدورها المهني في كشف الحقائق بشفافية، لربما أُوقف النزيف مبكرًا وأنقذت آلاف الأرواح.
المؤلم أننا قد لا نصل يومًا إلى الرقم الحقيقي للشهداء، فهناك آلاف مطمورون تحت الركام لا يُعرف مصيرهم، ولا يُسمع صوتهم إلا في حشرجة الفقد التي تختنق بها قلوب ذويهم وصمت الخراب من حولهم. ومع أن هذه الأبحاث لا تغيّر حقيقة راسخة عندنا، فإنها تشكّل في الغرب منعطفًا مهمًا في الوعي تجاه ما جرى، وتضع الحكومات التي منحت الكيان السلاح والغطاء السياسي أمام مسؤوليات تاريخية يصعب التنصل منها.
لقد أصبح من العسير اليوم إخفاء ما وقع في غزة؛ فالأرقام تتكلم، والوثائق تتدفق، والدم لن يمحوه الزمن ولا تصريحات السياسة، بل يبقى شاهدًا لا يسقط بالتقادم.