الغد
الاقتتال الطائفي الدائر في سورية اليوم ليس بأزمة محلية، بل هو عطب عميق تعاني منه الدولة «الوطنية» (national state) في العالم العربي. هذه الدول، التي نشأت أغلبها بحالة وظيفية للاستعمار، ظلت تُستدعى فيها الطائفية كأداة سياسية للهيمنة، لا كمكوّن ثقافي يخدم التنوع.
في فلسطين، حتى حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل أخفقت، بشكل مخزٍ، في تجاوز الانقسام. لا لأن الهوة السياسية لا تُردم، بل لغياب مكنة عضوية لإدارة تداول سلمي للسلطة، وانعدام ثقافة إدارة الخلاف والاختلاف، وتوارث آليات الإقصاء في التعامل مع التنوع الطائفي والإثني والإيديولوجي. وهذا، كما أشرنا، عطب بنيوي يتجاوز الحالة السورية أو الفلسطينية، ويعمّ أرجاء الوطن العربي كافة.
هذا العطب قديم، وليس طارئًا؛ فمنذ “السقيفة”، أخفق العقل العربي، المدني والديني، في إنتاج أدوات سلمية لتداول السلطة وحل الصراع حولها، فظل التنافس يُحسم بالغلبة، ويُشَرعن بالتأويل الديني. فالخلاف الطائفي والإثني كان في جذوره صراعًا على السلطة لا على الحقيقة والحق والعدل. وما الانقسام السني– الشيعي، وإن بدا في ظاهره لاهوتيًا، إلا أنه - في جوهره- صراع على السلطة وأحقية التمثيل. وأعادت الدول العربية، ومن ورائها النخبة المثقفة، توظيف هذا الإرث بدلا من أن تتجاوزه، وفعلت هذا بانتهازية سياسية وفكرية مُعيبة.
بين تلافيف بنية حضارية هشّة تسود فيها علاقات ما قبل الدولة الدستورية القائمة على المواطنة وحقوق الانسان نشأت بيئة خصبة للاستغلال الاستعماري، حيث كانت عناصر التشظي العربي جاهزة لمشروع “فرّق تسد”.
نعم، ظلت الدول العربية مخلصة لوظيفة تأسيسها: الضبط، والتقييد، والتشظي البنيوي، وإدارة المكونات لا احتوائها. وصار تاريخ تلك الدول سيرة ‘داحس والغبراء‘ متواصلة.
هل التشظي قدر؟ سؤال برسم التفكير والتقصي في بيئتنا العربية والإسلامية، لكن تجارب الشعوب تقول بغير ذلك. إندونيسيا، مجتمع فسيفسائي، بنت هوية وطنية تقوم على “الوحدة في التنوع”. وسنغافورة فرضت الاندماج بموجب هيكل قانوني– مؤسساتي، دعمته ثورة ثقافية ضد التمييز، ودمجت المكونات في التعليم والسكن والإدارة. وفي المقابل، فشل المشروع العربي بعد الاستقلال في إحداث تحوّل في بنية التشظي، وواقعنا اليوم دليل مؤلم على ذلك، فما نحتاجه اليوم هو أكثر من “تحرير”، نحن بحاجة لمشروع حضاري شامل، وإعادة تعريف الدولة الوطنية لتكون حاضنة لاحتواء المكونات. فهل الاعتراف بالوجود الحضاري للأكراد، أو الأرمن، أو الشيعة أو السنة، والدروز، وبحقهم في الوجود، أخطر من حالة الانهيار العربي الراهنة؟.
الخروج من “دول المكونات” إلى “دول المواطنين” يحتاج إلى ثورة ثقافية كتلك التي خاضتها الصين، وعمل ناضج كما حققته إندونيسيا وسنغافورة، يحتاج إلى مشروع وحدوي لا يقوم على الضبط البوليسي للتنوع، بل على وعي سياسي، وقبول، وانفتاح، واعتزاز بالمكونات، تحت قاعدة الوحدة في التنوع.
وسط ركام النظام العربي المنهار، قد يبدو هذا الحديث ساذجًا لكن وكما علمتنا كل لحظات الانعتاق في التاريخ، فإن التجديد والإصلاح يبدآن دومًا من تحت الركام. وإن غدًا لصانعه قريب، جنابك.