عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    04-Jan-2020

حراك الجزائر.. كيف حاربته السلطة بسياسة التنقيط؟ - أحمد وايل
 
الجزيرة - تنقضي سنة 2019 بأحداثها ووقائعها التي ميزها في الجزائر الحراك الشعبي الذي انطلق من شهرها الثاني ولا يزال مستمرا حتى بعد انصرافها، ولعل من مغازلات هذا العام للجزائريين أن زامن يوم الجمعة (يوم الحراك) اليومين الأكثر رمزية عند الجزائريين؛ يوم الخامس من يوليو الموافق لتاريخ استقلال البلاد، ويوم الفاتح من نوفمبر يوم إعلان ثورة التحرير المسلحة. لكن لماذا انقضى العام كاملا ولا زال الحراك -أو على الأقل قطاع واسع منه- يأبي إلا الاستمرار؟
 
لابد من الاتفاق أن الحراك انطلق من أجل إصلاح أساليب العمل السياسي وآلياته وليس لممارسة السياسية، أي أن جميع التيارات على اختلافاتها وتناقضاتها أجمعت على ضرورة الإتفاق على قواعد اللعبة أولا ثم التنافس حسبها بما يضمن الشرعية الكاملة للمنتصر صاحب الأغلبية الشعبية، ويقطع الطريق أمام إمكانية الاستئثار المطلق بصناعة القرار. لكن السلطة استوعبت أن خروج صناعة القواعد من يدها يعني انتهاء عهد الانتصارات المضمونة والمخرجات المحسوبة فسعت جاهدة إلى تأجيج الخلافات الفكرية والجر نحو استباق الصراعات السياسية وتغييب غاية الحراك الحقيقة والوحيدة المتمثلة في العودة إلى الشرعية الشعبية، والتشويش عليها وهو ما تورطت فيه بعض الأطراف المحسوبة على الحراك، بل وسبقت السلطة في ذلك برفع شعارات فئوية.
 
 
طول أمد الحراك الذي صاحبته سياسات السلطة في تقشيره كانت بمثابة المصفاة التي أماطت اللثام عن كل منتهز قابل للمساومة يجب الحذر منه، وكشفت سذاجة كل سفيه لا يجدر أن يُأتمن على رأي أو قرار
أدرك النظام السياسي منذ الأسبوع الأول للحراك أن حراكا شعبيا سلميا بهذا الحجم لا يمكن أن ينفض إلا بتحقيقه غايته أو مجاراته ظاهرا ومناورته باطنا سعيا إلى إضعافه تدريجيا، فاختار الخيار الأخير وبدأت سياسة المساومة، أو ما يمكن تسميته تقشير الحراك، وذلك بأن تعمد السلطة إلى قرارات لا تهدف إلى إقناع الحراك ولكن تستهدف طبقة واحدة فقط ثم يأتي الدور على ما تبقى من طبقات تباعا لاضعافه والاتجاه نحو رفع الشرعية الشعبية عنه وتفريخ الانقسامات والصراعات داخله، حتى خلقت استقطابا حادا يهدد الوحدة الوطنية بشكل مباشر قد تستمر تداعياته إلى أجل غير قريب.
 
انتهج النظام سياسة التنقيط (إحدى تقنيات الري) من أجل إضعاف الحراك وذلك بتجاهل غايته وقطع الوعود وتجسيد الإصلاحات الجزئية والتنازلات الظرفية التي أقصاها أن يتخلى عن بعض رموزه مقابل استمراره بنفس الممارسات من احتكار للسلطة وتغييب لمؤسسات الدولة وتضييق على النشطاء وتخوين للشخصيات المعارضة وتشويه للحقائق وتكييف لها. كانت القطرة الأولى تنازل الرئيس المنتهية ولايته عن العهدة الخامسة والاكتفاء بالمطالبة بسنة انتقالية تُجسَّدُ فيها إصلاحاتٌ عجزَ النظام عن تجسيدها طيلة عقدين من الزمن لكن قوبلت بالرفض المطلق. ثم جاءت الخطوة الثانية بالتنازل عن ترشيح الرئيس تماما وحاول إعلام السلطة عبثا تصوير الأمر كانتصار للحراك من أجل الإجهاز عليه في مهده. ثم جُرب التعجيل بإنتخابات رئاسية في يوليو الفارط لكن تبين أن الخطوة مبكرة وفيها سوء تقدير لطول نفس الحراك ولا يمكن تحقيقها إلا بمناورات أكثر وإطالة أمد الأزمة السياسة أكثر فكلما طال تعطل مصالح الناس زاد توترهم ونفورهم من الحراك.
 
ثم أقامت السلطة "الهيئة الوطنية للحوار والوساطة" والتي كانت بمثابة حوار الذئب مع ذيله، لتنبثق عنها "السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات" التي فضح لاحقا عدم استقلاليتها رئيسها بعظمة لسانه بعد أن صرح أن تكليفه جاء من رئاسة أركان الجيش والمفروض أنه منتخب من طرف أعضاء هذه السلطة، ثم تتجه السلطة بتقديم قرابينها للشارع المنتفض عن طريق محاكمات لرموز بوتفليقة في قضايا فساد، ليصل الوضع إلى انتخابات مثيرة للجدل إذا لم تكن العلة فيها فقد كانت في ظروفها التي سبقتها بحيث لم تقدم فيها أي ضمانات ملموسة لنزاهتها مما أبعد أي بدائل حقيقة للترشح لها. لم تنتهي مناورات السلطة عند هذا الحد وبدأ الاستثمار في وفاة قائد أركان الجيش لاستعطاف الشارع واستغلال وفاته للتسويق لسلطة العسكر بشكل صريح، وبعد أن تم إجهاد الحراك والاستغلال المقيت لمصيبة الموت جاءت مصائب الليبيين بفائدة غير مباشرة للنظام كي يستثمر مرة أخرى في فزاعة الإضطراب الأمني عند الجارة ليبيا وضرورة الإتجاه نحو الحل الأمني متمثلا في التسليم المطلق للقيادة العسكرية في صناعة القرار السياسي فضلا عن الأمني.
 
إن طول أمد الحراك الذي صاحبته سياسات السلطة في تقشيره كانت بمثابة المصفاة التي أماطت اللثام عن كل منتهز قابل للمساومة يجب الحذر منه، وكشفت سذاجة كل سفيه لا يجدر أن يُأتمن على رأي أو قرار. وكل هؤلاء تحت عين التاريخ التي لا تفارق المشهد وقلمه الذي يسطر الكبيرة والصغيرة لعلها تكون معالم بناء المستقبل. ورغم كل محاولات تثبيط الحراك إلا أنه لازال يحتفظ بنواته الصلبة التي لم تستطع السلطة تحييدها رغم فرض الإنتخابات الرئاسية يوم 12 ديسمبر التي ظن البعض أنها ستكون بمثابة شهادة وفاة حراك ولد يوم 22 فبراير. وعلامة صلابة هذه النواة و عجز النظام عن تحييدها هو استمراره في احتكار الإعلام والتسويق للتوجه الواحد، والجزع من كل ذي لسان ومحاولة إسكاته، و مبالغته في توظيف مؤسسات الدولة وأجهزتها من أجل فرض رؤيته وعلى رأسها العدالة التي صارت سيفا يسلط على كل مخالف بتهم واهية، والتضييق الأمني الممنهج لشل الحراك.
 
إن من يعتقد أن الحراك -أو ما تبقى منه- ينتهج سياسة الرفض الممنهج و الرد بكلمة "لا" لكل مبادرات السلطة واهم ينظر إلى الأمور بسطحية تستغلها السلطة في كسب تأييده، أو هو واقع تحت تأثير طول الأمد الذي تقسوا به القلوب وتخور به العزائم والهمم. وإن كان البعض لا يرضى إلا سطحية أو يتكاسل عن استيعاب الوضع السياسي فإليه هذا المثال البسيط: لو نهب أحد ناقة فإنه لا يمكن أن يتحقق الإنصاف إلا بأن يعيدها إلى صاحبها كاملة سالمة والذي له الحق كله أن يرفض قائلا "لا" إذا عرض السارق عليه لباسا من وبرها، و"لا" إن أراد أن يسقيه حليبا من ضرعها، و"لا" إذا دعاه إلى طعام من لحمها، و"لا" إن أراد أن يحمله و متاعه على ظهرها، و"لا" إن وعده فصيلا من نسلها، و"لا" لكل حيلة يهتدي الجاني إليها ويحاول اضلاله بها ودفعه للاستسلام والتسليم للواقع. وإن كان هناك من يجدر أن يُساوَم فهو اللص لا الضحية فإما عقاب للفاسق بعدل أو عفو عنه بكرم، وللجود أهله.
 
إن تقنية التنقيط في مجال الزراعة قد اثبتت نجاعتها في ري مزروعات ونباتات حية وواهم من يظنها تجدي نفعا في سقي أعواد يابسة، وما ذلك إلا هدر للماء وتمسك بأمل زائف وسراب سرعان ما ينقشع. مشكلة النظام السياسي في الجزائر لم تكن يوما في تشقق جدرانه وتصدعها التي تتظاهر السلطة بترميمها اليوم ولكن في أساساته غير الثابتة، والتي لن تثبت ما لم تحتضنها أرض الشرعية المتينة. وما انتشار الفساد والتسلط والرداءة إلا أعراض لا تنفع محاربتها لأنها سرعان ما تظهر في أشكال جديدة إذا لم يعالج مرض اللاشرعية. إن السلطة تفقه تماما مكمن الداء وتملك دواءه وليست بحاجة إلى حوار لفهمه ولا إلى ممثلين عن الحراك لتوصيفه لها ولكن انعدام الإرادة السياسية الصادقة يقف عائقا أمام الإصلاح الجذري. وما استمرار الحراك إلا من أجل الضغط أملا في توليد تلك الإرادة لدى أصحاب القرار الفعليين.