عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    27-Oct-2025

مقامرة غزة: فن الصفقة المنذورة للفشل

 الغد-ترجمة: علاء الدين أبو زينة

ويم لافن – (كاونتربنش) 22/10/2025
لن يفاجئني أي شيء يقوله ترامب بعد الآن. ليس ثمة كذبة فاضحة بما يكفي لتردَعَه -أتذكُرون حين وصف الطقس الغائم بأنه "مشمس"؟ أو ادعاءه السخيف والخاطئ تماماً بأنه "أنهى سبع حروب"، والتي تضم صراعات بين كمبوديا وتايلند؛ وكوسوفو وصربيا؛ وجمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا؛ وباكستان والهند؛ وإسرائيل وإيران؛ ومصر وإثيوبيا؛ وأرمينيا وأذربيجان؟
 
 
لا تنسوا أن أرمينيا (التي كان ترامب قد خلط سابقاً بينها وبين ألبانيا) وأذربيجان لم تصادقا بعد على أي اتفاق. قبل أسبوعٍ واحدٍ فقط، في 14 تشرين الأول (أكتوبر) 2025، أعاد وزير الخارجية الأرميني، أرارات ميرزويان، التأكيد على أن الإصلاح الدستوري هو شأنٌ داخلي، وأن أرمينيا لن تقبل بمطالب أذربيجان كشرطٍ مسبقٍ لأي معاهدة. ومع ذلك، أعلن ترامب بكل فخر أنه أنهى هذه "الحرب التي لا يمكن إنهاؤها".
ليست مسرحية ترامب لـ"وقف إطلاق النار" في غزة فريدة في أنانيتها وخدمتها البشعة للذات، لكنها مع ذلك بالغة الخطورة. إن الدقة والمساءلة أمران مهمان. وقد رأينا من قبل إعلاناتٍ غير ناضجة سابقة لأوانها عن أن "المهمة أنجزت" وشهدنا التفاؤل المبالغ فيه في العديد من المرات من قبل.
منذ أن دخلت الهدنة الهشّة التي رعتها الولايات المتحدة حيّز التنفيذ في 10 تشرين الأول (أكتوبر)، قتلت إسرائيل قرابة 100 فلسطيني وجرحت نحو 230 في غزة، بحسب قناة "الجزيرة". وعلى مدى أيامٍ من الاتهامات المتبادلة، أصبح واضحًا أن الثقة لا تُبنى بالإكراه وإنما بتقديم العهود والوفاء بها. ومع ذلك، أطلقت القوات الإسرائيلية النار مراراً على فلسطينيين عزّل وشنّت غارات جوية على الرغم سريان الهدنة. هل لدينا هدنة حقًا؟ وكان آخر تلك الهجمات يوم الأحد، حين زعمت إسرائيل أن مقاتلين من "حماس" هاجموا جنودها في رفح -وهي منطقة تخضع للسيطرة الإسرائيلية. وقال الجيش الإسرائيلي أن جنديين قُتلا، متّهماً "حماس" بانتهاك الاتفاق، قبل أن يشنّ "موجةً ضخمة وواسعة" من الغارات على مختلف أنحاء القطاع.
نفت "كتائب القسام"، الجناح العسكري لحركة "حماس"، أيَّ تورطٍ لها في هذه الهجمات، كما تفعل في الغالب، مشيرةً إلى أنه ليس لها تواجد في رفح ولا أي تواصلٍ مع مقاتلين هناك. ولم تكن هذه المرة الوحيدة التي اتُّهمت فيها "حماس" بخرق الهدنة. كما زعمت إسرائيل أيضًا أن الحركة تُماطل في تسليم جثامين 28 أسيراً إسرائيليًا قُتلوا خلال قصف إسرائيل نفسها لغزة.
هذا هو السياق الذي يتباهى فيه ترامب بما يسميه "اتفاق السلام" الذي قدمه. وفي الحقيقة، ليس ما يصفه بأنه انتصارٌ دبلوماسي سوى توقف هش للقتال تمزقه جولات العنف المتكرّرة -مجرد توقف لم يوقف القتل ولم يلبِّ الاحتياجات الإنسانية للسكان المدنيين في غزة. عندما يُقتل قرابة 100 فلسطيني خلال هدنة جرى التفاوض عليها تحت رعاية الولايات المتحدة، فإن تسميتها "سلامًا" ليست مجرد تضليل، وإنما انحطاطٌ أخلاقيٌّ يصعب الدفاع عنه. إنّ صفقة ترامب، شأنها شأن الكثيرٍ من مقامراته في السياسة الخارجية، لا تتعلق بحلّ النزاعات بقدر ما تتعلق بالعرض المسرحي، وهي محاولةٌ أخرى لإعلان نصرٍ وهميٍّ يدفع الآخرون كلفته بالدم.
على النقيض من ذلك، كانت الهدنة التي تفاوضت عليها إدارة بايدن، على الرغم هشاشتها وعيوبها، ترتكز على تنسيقٍ متعدد الأطراف وإشرافٍ إنسانيٍّ متواصل. كانت تشمل مراقبةً مستمرة، وتسهيلًا من الأمم المتحدة، وآلياتٍ لإيصال المساعدات مصممةً لمنع الانهيار السريع الذي شهدناه في عهد ترامب. وقد عكست مقاربة بايدن إدراكًا واقعيًا لحقيقة أن السلام لا يُعلن في بيانٍ صحفي، وإنما يُبنى وتمكن إدامته على أساس الثقة، والمساءلة، والوصول الإنساني المستدام. وعلى عكس ترامب، لم يدّعِ بايدن يومًا أنه الرجل الذي جلب "السلام الدائم إلى الشرق الأوسط".
ومع ذلك، يبرز هذا التباين حقيقةً أعمق: في غزة، تظل كلمات مثل "اتفاق" و"هدنة" جوفاء بلا معنى إذا لم تُترجم إلى حفظ للأرواح التي يفترض أن تحميها. وطالما استمر العنف في ثوب "الضبط"، ستبقى الادعاءات بجلب السلام جوفاء. لم تكن مقامرة ترامب -نهجه الاستعراضي الأناني والخادم للذات في التفاوض- تتعلق بإنهاء إراقة الدماء، وإنما كانت مصممة لتقديمها كمشهدٍ لانتصارٍ متخيّل. إنها مسرحية الدبلوماسية من دون مضمون الدبلوماسية، وعرضٌ أجوف يتصور التصفيق على أنه انتصار.
يشكل سلوك ترامب المتمثل في نسبة الفضل لنفسه عن أعمالٍ لم يقم بها نمطًا ثابتًا. فقد أعلن "انتصاراتٍ" لم تحدث على الإطلاق، سواء في السياسة الخارجية، أو السياسات الداخلية، أو حتى في مواجهة الجائحة. لكنّ لهذا النمط في غزة تبعاتٌ إنسانيةٌ مروّعة. يقدر برنامج الأمم المتحدة للتنمية حجم الدمار في غزة بنحو 70 مليار دولار، مع الحاجةٍ إلى 20 مليار دولار خلال السنوات الثلاث القادمة فقط. وللمقارنة، بلغت ميزانية "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (USAID) للعام 2023 -قبل أن يدمّرها ترامب- نحو 38 مليار دولار. ومن المؤكد أن دبلوماسية الصور الاستعراضية والمساعدات الملقاة من الجو لا تلبي احتياجات المدنيين الفعلية على الأرض.
رحّبت "منظمة أطباء بلا حدود" بوقف إطلاق النار، لكنها تواصل الدعوة إلى إنهاء الكارثة الإنسانية المستمرة. وهي تفيد بأنها تعالج ضحايا مصابين بحروق شديدة، وأطفالًا مصابين جراء انفجارات القنابل، أو المياهٍ المغلية، أو الحرائق الناجمة عن الوقود في الملاجئ المرتجلة. والتاريخ يكرّر الدرس نفسه مرة تلو المرة: لقد وقّعت إسرائيل و"حماس" اتفاقاتٍ لوقف النار في الأعوام 2008 و2012 و2014 و2019 و2021، والتي انهارت كلها. وليست التهديدات بالانتقام، والإكراه، والاستعراض المسرحي دبلوماسية، وإنما وصفةٌ للفشل المتكرر.
يعكف ترامب على ادعاء انتصار لا وجود له. ولعل الشيء الوحيد الذي يستحق أن يُحسب له هو دفعه نحو إطلاق سراح 20 رهينة ما تزال على قيد الحياة. ولكن يبدو أكثر فأكثر أن ذلك لم يكن سوى حيلةٍ لنيل ما أرادته إسرائيل، ولينال هو المديح الذي يغدقه على نفسه، وليس الإنجاز العظيم الذي يدّعيه.
لقد وضع ترامب احتياجاته السياسية فوق الإنسانية. وكان ما قدمه مجرد مقامرة -محاولةٌ لانتزاع نصرٍ على الرغم من المخاطر الهائلة. وتُظهر الدراسات الدقيقة لاتفاقات السلام فروقًا قابلةً للقياس: عادة ما تكون الاتفاقات ملتبسة الصياغة أكثر عرضةً للفشل بسبب الشكوك وسوء التفسير وانعدام الثقة. كما أن غياب الجداول الزمنية، وآليات المساءلة، وأدوات التنفيذ في إعلان ترامب، تتناقض كلها بحدة مع نهج بايدن الأكثر استنادًا إلى البيانات والتجربة.
حتى من الناحية اللوجستية، تبدو الوعود التي تبذلها المبادرة غير واقعية. إن غزة مدمرة -حيث سويت بين 70 و90 بالمائة من بناها التحتية بالأرض- مما يجعل الوعود بإيصال المساعدات شبه مستحيلة التطبيق. نادرًا ما تصل المساعدات الموعودة إلى المدنيين المحتاجين، بينما يظلّ نزع سلاح "حماس" مجرّد سراب. وقد أنهِك النظام العالمي للمساعدات بالفعل وأُضعف مسبقًا بسبب خفض الميزانيات وتصاعد السلطوية في مختلف أنحاء العالم. وبذلك، تبقى الانتصارات السابقة لأوانها هي الوحيدة التي يستطيع ترامب ادّعاءها، وهو الذي تزدهر إدارته على فنّ المسرح السياسي وليس فنّ الدولة.
في النهاية، تُقوِّض هذه المقامرة مصداقية الولايات المتحدة في بناء السلام. وينسف إعلان السلام لأجل عناوين الأخبار بينما يستمر العنف كلًا من السلطة الأخلاقية والقدرة العملية على حل النزاعات على حد سواء. سوف يتطلب السلام المستدام الصدق والمساءلة، والالتزام بحياة المتضررين -لا التصفيق، ولا المسرح السياسي. وتشكل مقامرة ترامب في غزة تذكيرًا صارخًا بأن السلام الحقيقي لا يمكن تمثيله على المسرح؛ بل يُبنى لبنةً لبنة، على أسسٍ من الحقيقة والثقة.
*ويم لافن Wim Laven: أكاديمي متخصص في إدارة الصراعات الدولية، حاصل على درجة الدكتوراه في هذا التخصص. وهو يُدرّس مساقات في العلوم السياسية وحلّ النزاعات، ويشغل عضوية مجلسي إدارة كلٍّ من "الرابطة الدولية لأبحاث السلام" و"جمعية دراسات السلام والعدالة". وهو رئيس تحرير مجلة "ذا بيس كرونيكل". 
*نشر هذا المقال تحت عنوان: A Gaza Gambit: The Art of the Doomed Deal