عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    19-Jan-2021

جبنـة المطر* رمزي الغزوي
الدستور -
مع كل مطر أعود طفلاً شغوفاً بالماء وخيوطه المنسوجة بيد الغيمات، طفلاً يرقص مع قرقعة الرعد ويصهل ملء مداه ويتحمحم كحصان جامح مع أول لمعة برق، يرقب فلول الغيوم المكتنزة في طنجرة السماء، يرقبها كيف تجيش وتجيش؛ فتسود عين الشمس وتعميها، لتغط في نوم بعيد.
أعود طفلاً يعتصم في باحة الدار، مع أصحابه المنهزمين من زخة المطر، وجدتي من العتبة تأمرنا أن لا نقف بوجه البرق، وتنادينا لنلوذ قرب النار، فالبرق يخطف الأبصار ويهرب كلص لئيم، فأسرع منهمراً كحجر المقلاع، وأخطف نظارات جدي السميكات، وألبسها على وجهي كدرع.
عندما يشتعل البرق ويتأزم كبركان، كنا نخاله سيحرق الأفق ورأس الجبل، والسماء تتشقق  كجذور ملتهبة لشجرة قوية. يلمع مرة أخرى، دون أن يجرؤ ويخطف عيوننا، ونعتقده يريد أن يأخذ صورة لنا، فلمعة البرق ليست إلا فلاشاً كبيراً للكاميرا الكبيرة، فلا بد أن نستعد، فالصورة ستكون أكبر من قلعة، وأضخم من مدرسة، فنتجمع قرب شرفة الشارع، ونقف صفاً مرصوصاً، نتلفظ بكلمة (cheese)؛ كي تطلع صورتنا ضاحكة كبقرة.
قرب كانون النار المتخم بالجمرات الياقوتية كان جدي يترنم بالقصائد الملتهبة (كدلة) القهوة، ويرددها مع أبي الذي يقرأ على مسامعنا الصاغية سيرة أبي زيد الهلالي، ونندغم بالمعارك الطاحنة الصاخبة بالصهيل والعويل، ولا يردنا إلى صوابنا المشدوه، إلا انفجار حبات البلوط المدفونة في حرارة الكانون معلنة نضجها اللذيذ.
كم أخذتني الموسيقى، من بيتهوفن إلى موزارت، وباخ وشوبان، وفريد الأطرش، وتقاسيم العود النابضة لنصير شما، لكني لا زال يخلد في أذني موسيقى المطر، فجدتي التي كانت تخاف على سجادة دارها من الدلف (الماء المتسرب من السقف خلال المطر)، فكانت تضع صحوناً معدنية في كل موضع يدمع منه السقف، فتحط  الدمعات المتساقطة بمرح في الصحون وتتكتك وتنقر طبول فرحي؛ فترقصني رقصاً جوانياً، فكم مرّ عليّ من شتاءات وبيوت بسقوف محكمة، إلا أنني ما زلت أحفظ موسيقى ذلك المطر عن ظهر حب.