عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    28-Dec-2025

فوضى هدامة..!*علاء الدين أبو زينة

 الغد

في الجيوسياسة، يمكن أن تفضي الفوضى أحيانا إلى نظام جديد إذا انهار النظام القديم بالكامل وظهرت قوى منظمة بقيادة قادرة على تحويل الغضب إلى مؤسسات. حدث ذلك في بواكير الثورات الفرنسية أو الروسية. لكن الفوضى أنجبت في معظم الحالات، مثلما حدث في فوضانا المدفوعة من الخارج، مزيدا من التفكك والصراعات الداخلية، وعززت الاستبداد بدل خلق نظام جديد.
 
 
برز مفهوم «الفوضى الخلّاقة» في مطلع العقد الأول من الألفية الثالثة بوصفه إطارًا إستراتيجيًا رئيسيًا للسياسات الأميركية في الشرق الأوسط. وتم طرح المفهوم كتصور واعٍ يرى أن زعزعة البنى السياسية القائمة تمهّد لإعادة تشكيل المنطقة بطريقة تضمن هيمنة أميركا وقاعدتها الأمامية الاستعمارية في فلسطين. وافترض هذا التصور أن تفكيك الدول المركزية عن طريق إسقاط أنظمتها، وإضعاف مؤسساتها، ودفعها إلى صراعات داخلية مطوّلة سيؤدي في النهاية إلى نشوء نظام إقليمي أكثر قابلية للضبط وأقل قدرة على المقاومة.
لكنّ التجربة التاريخية في الشرق الأوسط كشفت عيوب هذه الفرضية وأظهرت زيفها البنيوي. إن الفوضى لا تُنتج النظام في ذاتها. إنها قد تفتح المجال له فقط إذا كانت فوضى سياسية واعية، نابعة من الداخل، تقودها قوى اجتماعية تمتلك مشروعا واضحا وقدرة تنظيمية ومخيلة مؤسسية. لكنّ «الفوضى الخلّاقة» كما أثيرت في منطقتنا لم تكن فوضى انتقالية ولا تفكيكًا نقديًا لنظام مأزوم. كانت فوضى مفروضة من الخارج، مصمَّمة لتدمير الدولة والمجتمع معًا من دون توفير أي شروط واقعية لولادة نظام جديد عادل أو مستقر.
الفوضى والخلق في الأساس مدلولان متعارضان. الفوضى تُحيل إلى التفكك، وغياب النظام، وانهيار المعنى. والخلق يحيل إلى فعلٍ واعٍ ينتج نظامًا جديدًا وبنية قابلة للحياة والاستمرار. الفوضى حالة انحلال. والخلق فعل تأسيس. والجمع بينهما في تعبير واحد ينطوي على مفارقة مقصودة تخفي اختلالًا أخلاقيًا وسياسيًا يُقدم الكوارث والدمار وتفكيك المجتمعات بوصفها مرحلة ضرورية لإنتاج نظام «أفضل»، من دون أي ضمانة حقيقية لأن يكون هذا النظام أصلح للذين يتم تدميرهم باسمه.
لم تفضِ الفوضى تلقائيا تاريخيا إلى الخلق. وأنتجت في الغالب مزيدًا من العنف والفراغ الذي يملأه الأقوى على حساب الأضعف. وكان ادعاء القدرة على إنجاب الخلق من الفوضى في منطقتنا تبريرًا أيديولوجيًا لإحداث الخراب وتسويقه كفعل عقلاني ومخطط، بينما هو في جوهره نفي لفكرة الخلق ذاتها كفعل أخلاقي ومسؤول.
كان العراق أول ضحايا هذا الترتيب. هناك تبدد الزعم بأن الحرية يمكن أن تأتي على دبابات الغرباء. لم يستهدف الغزو إسقاط النظام السياسي فحسب، بل استهدف بنية الدولة ذاتها بحل الجيش، وتفكيك الأجهزة الأمنية وإعادة صياغة الحياة السياسية على أسس طائفية وإثنية. وأدت هذه الإجراءات إلى انهيار سريع لمنظومة الحكم والإدارة، ونشأت بيئة مفتوحة أمام المقاومات المسلحة والصراعات الداخلية معقدة، وتوسّع نفوذ قوى إقليمية لم تكن جزءًا من الحسابات الأصلية. وأصبح العراق نموذجا لعقم استخدام القوة العسكرية للهدم من دون تصور واقعي للبناء، وتحول إلى ساحة صراع مطوّل وفوضى مقيمة.
ثم قدمت نموذجًا أكثر تعقيدًا. منذ العام 2011، تحول البلد إلى ساحة تتقاطع فيها مختلف أدوات التفكيك: دعم جماعات مسلحة داخلية وخارجية، وضغوط سياسية ودبلوماسية، وعقوبات اقتصادية، وحروب بالوكالة. وجعل تعقيد البنية الاجتماعية والسياسية والجيوسياسية السورية من الصعب توجيه الفوضى نحو مآل محدد. وبمرور الوقت، أدت حالة الانهيار إلى صعود تنظيمات متطرفة عابرة للحدود، وكثرة اللاعبين باختلاف غاياتهم. وفي هذه الحالة أيضا لم يُنتج تفكيك الدولة أي بديل مستقر بقدر ما رسخ نمطًا من الفوضى المفتوحة.
وفي لبنان، اعتمدت المقاربة الغربية لإشاعة الفوضى على أدوات الضغط المالي والاقتصادي والعقوبات، وعلى إدارة الانهيار الداخلي كوسيلة لإعادة تشكيل موازين القوى لتكون مهيأة للخضوع. وتم ربط الاستقرار الداخلي بشروط سياسية وأمنية محددة أُريد بها إضعاف قوى بعينها وتجفيف مواردها. وجعلت التركيبة الداخلية الهشّة، مقرونة بوجود قوى تمتلك قواعد اجتماعية وقدرات سياسية وعسكرية راسخة، هذا النهج عاجزًا عن فرض إعادة تركيب شاملة. وكانت النتيجة تعميق الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، وتحويل الفوضى إلى أداة ضغط تفاوضي أكثر منها مدخلًا لإعادة بناء النظام السياسي.
وتكرر النمط بأدوات مختلفة في اليمن وليبيا والسودان. لكنّ الأخطر في مفهوم «الفوضى الخلّاقة» أنه تعدى هذه الدول إلى تشكيل وعي المجتمعات العربية كلها وتطبيع الانهيار بوصفه قدرًا، وتحويل الفوضى إلى طبيعي مألوف، وتقديم أي شكل من أشكال الاستقرار كخلاص، بغض النظر على ثمنه. وتم توظيف الفوضى لإعادة إنتاج الاستبداد في صيغ أكثر عنفًا، وتسويق القمع الداخلي باعتباره الضامن للأمن والحاجز الأخير في وجه الانهيار الشامل.
في الشرق الأوسط، لم تُفضِ السياسات الأميركية القائمة على تعميم الفوضى في الشرق الأوسط كأداة للهيمنة الإقليمية وترسيخ تفوق الكيان الصهيوني، إلى تحقيق أهدافها الإستراتيجية المعلنة. على الرغم من نجاحها في إضعاف بنى دول مركزية، فإنها أخفقت في إخضاع المجتمعات أو إنتاج نظام إقليمي قابل للإدارة.
ربما فككت هذه السياسات منظومات الدولة، لكنها لم تنجح في القضاء على ديناميات المقاومة. وأفضى توسيع دوائر العنف وعدم اليقين إلى تقليص هامش التحكم الأميركي ورفع كلفة التدخل المستمر. ولم تترسخ سيادة الكيان الاستعماري، وإنما أصبح أمنه أكثر ارتهانًا لمنطق الردع وإدارة الأزمات وليس لمنطق الهيمنة المستقرة. وأصبح محكومًا بالبقاء في حالة استنفار دائم. وأظهرت التجربة أن التفكيك كاستراتيجية للسيطرة ينطوي على إمكانية تفكيك الهيمنة نفسها وتقويض إمكانية استدامتها على المدى الطويل.