الدستور
كلما كانت الكذبة كبيرة، زاد تصديق الناس لها هتلر.
شاهدتُ قبل أيام مقابلة مع مجرم الحرب نتن ياهو على قناة «فوكس نيوز» الأمريكية، هدفها الواضح كان تمكينه من بث أكاذيبه ضمن محاولة ممنهجة لتشكيل الرأي العام الأمريكي، تمهيدًا لتقبّل انخراط بلادهم المباشر في الحرب الجارية بين الصهاينة وإيران.
أعادتني تلك المقابلة سنوات إلى الوراء، إلى الحقبة التي كان فيها الإعلام الغربي يحشد لتبرير غزو العراق، مروّجًا لامتلاكه أسلحة دمار شامل، ومصوّرًا صدام حسين كتهديد داهم للأمن العالمي. آنذاك، استُخدمت صور رمزية مؤثرة كالدخان المتصاعد على هيئة فطر نووي، واستندت الحملات الإعلامية إلى معلومات استخباراتية كاذبة لتثبيت تلك الرواية. وأسهمت كبريات الشبكات، مثل «سي إن إن» و»فوكس نيوز»، في ترسيخ الربط العاطفي بين هجمات الحادي عشر من سبتمبر والعراق رغم انعدام أي دليل على وجود علاقة مما أدّى إلى تأجيج مشاعر الخوف لدى الشعوب الغربية، وتمهيد الطريق لتأييد شعبي واسع لخوض الحرب.
وقد مُنح نتن ياهو، مجرم الحرب وقاتل الاطفال، واحدة من أكبر المنصات الإعلامية في الولايات المتحدة قناة «فوكس نيوز» ليواصل بثّ دعايته، من خلال مقابلة مع الصحفي بريت باير، الذي يُقدَّم بوصفه وجه الأخبار السياسية المستقلة في القناة، ومقدّم برنامج «تقارير خاصة». يظهر باير عادةً بمظهر الحازم والمحايد، وهو ما يجعل منه أداة مثالية لتمرير الأكاذيب متخفّية بين الحقائق، لتبدو أكثر تصديقًا.
في تلك المقابلة، أطلق نتن ياهو سيلًا من الأكاذيب، من بينها ادعاؤه أن إيران ستزوّد الحوثيين بقنابل نووية لاستخدامها في عمليات إرهابية تهدّد السلم العالمي، وأنها تطوّر صواريخ باليستية عابرة للقارات قادرة على قصف الساحل الشرقي للولايات المتحدة، في محاولة لإثارة الذعر في قلوب الأمريكيين. غير أن أكثر تلك الأكاذيب سخفًا كان زعمه بأن إيران حاولت اغتيال الرئيس ترامب مرتين، قائلاً: «هؤلاء الناس يهتفون الموت لأمريكا، وقد حاولوا اغتيال الرئيس ترامب مرتين»، في محاولة مكشوفة لاستدرار تعاطف أنصار ترامب الذين يرونه بمثابة المُخلّص.
بدلًا من أن يتعامل الصحفي «الحيادي» مع هذا الزعم بسخرية أو حتى يطلب دليلاً، طلب من نتن ياهو التوسّع في تلك الكذبة، إدراكًا منه لمدى قدرتها على دغدغة المشاعر الأمريكية. عندها زعم نتن ياهو امتلاكه معلومات استخباراتية سرّية تؤكد أن الإيرانيين يريدون قتل ترامب، وهو ما تلقّاه المذيع بتأييد مقرف لما سمّاه «الدليل».
وهكذا، وبلحظة خاطفة، تحوّل نتن ياهو الذي يعتبر من أكثر الشخصيات المكروهة في أوساط الرأي العام الأمريكي إلى نجم تتصدر تصريحاته عناوين وسائل الإعلام الأمريكية والغربية الكبرى، التي سخّرت منصّاتها لترويج أكاذيبه وتبرير دعوته لانخراط أمريكا في حرب مباشرة إلى جانبه. ويكشف هذا حجم التواطؤ الإعلامي في تهيئة الوعي الجماهيري لقبول مغامرة عسكرية جديدة.
ولا ينبغي أن يُغفل هنا أن شبكة «فوكس نيوز» مملوكة لإمبراطور الإعلام روبرت مردوخ، الذي لا يقتصر نفوذه على هذه القناة، بل يمتد إلى مؤسسات إعلامية ضخمة مثل «نيويورك بوست» و»وول ستريت جورنال». ويُدير الشبكة حاليًا نجله لاشلان مردوخ.
ويُعرف مردوخ بمواقفه الداعمة بقوة للصهيونية، إذ وصفها بأنها الحصن الأول في الدفاع عن الحضارة الديمقراطية الغربية، وصرّح في مناسبة أخرى أن «العالم الحر يعتمد على الصهاينة». وقد تبرّع مؤخرًا لإعادة إعمار كنيس يهودي، وتعهد بمحاربة ما يُسمى «معاداة السامية».
الإعلام الغربي، في جوهره، جزء لا يتجزأ من المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، إلى جانب مصانع السلاح، ومراكز الدراسات، والساسة الفاسدين. إنه منظومة متشابكة المصالح، تعيش على الحروب، ويخدم بعضها بعضًا في سبيل ديمومة الصراع.
ويضاف الى هذا أن لمردوخ مصالح مباشرة في دعم الكيان، إذ يُعد من كبار المستثمرين في قطاعي الطاقة والتكنولوجيا في الكيان الصهيوني، وكان من أبرز الداعمين لمسيرة نتن ياهو السياسية، الذي وصل إلى الحكم لتنفيذ أجندات متشددة بعد اغتيال إسحق رابين، وهو الاغتيال الذي تثار حوله شبهات تشير إلى تورط نتن ياهو نفسه فيه.
ومع ذلك، فإن الحاضر ليس كالماضي. فدرجة الوعي في المجتمع الأمريكي ارتفعت بشكل لافت، ويكفي أن تطّلع على ما يُنشر في مواقع التواصل الاجتماعي لتلمس حجم الرفض الشعبي لأي حرب جديدة في المنطقة. وفي الكونغرس، يبرز انقسام حاد، وسط مساعٍ حثيثة لتمرير قانون يُقيّد صلاحيات الرئيس في اتخاذ قرار الحرب دون العودة إلى السلطة التشريعية. إلا أن هذا الوعي الشعبي، والانقسام السياسي، قد لا يكون كافيًا إذا ما قررت الإدارة الأمريكية خوض الحرب. فقد بدأت بالفعل آلة الإعلام بالدوران، تمهيدًا لحشد الرأي العام وقولبته لقبول ما هو قادم.