الغد
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
باتريك مازا* - (كاونتربنش) 8/8/2025
ما نراه اليوم ليس سوى نسخة عالية التقنية من تاريخنا، نحن الغربيين، نفسه. بدلًا من حصد السكان الأصليين وإسقاطهم برصاص مدافع "غاتلينغ" الرشاشة في مذبحة "ووندد ني"، ثمة الآن طائرات "إف-16" وهي تلقي قنابل زنة الواحدة منها 2000 رطل على رفح. ونحن مصدومون لرؤية هذا لأن إسرائيل تمارس في القرن الحادي والعشرين ما مارسته الدول الغربية منذ القرن الخامس عشر.
ثمة أوقات يصعب عليَّ فيها أن أجبر نفسي على الذهاب إلى طاولة الكتابة، بينما أعلم أن هناك ما يجب الاعتراف به والكتابة عنه بشدة وإلحاح، لكنني بالكاد أجد الكلمات للتعبير عنه. وحتى لو وجدتها، فإنني أسأل نفسي: ما الأثر الذي يمكن أن يحدثه صوت صغير واحد؟ بل هل ستكون هذه مسألة ذات معنى من الأساس؟ إنني حين أرى يوميًا صور أطفال تبرز عظامهم من لحمهم الهزيل، ناهيك عن أطفال فقدوا أطرافهم، بينما يواصل معظم العالم الغربي دعمه لإسرائيل، فإن ذلك يصيبني بشعور باليأس من عجزنا الظاهر عن إيقاف هذا الهول.
ولكن في النهاية، لا بد لي من بذل هذا الجهد. ولا يمكن أن يكون هناك يوم أنسب من هذا اليوم، السادس من آب (أغسطس)، الذي يصادف الذكرى الثمانين لليوم الذي أحرقت فيه الولايات المتحدة مدينة هيروشيما اليابانية بالسلاح النووي الأول الذي يُستخدم في حرب، قبل ثلاثة أيام من إلقاء القنبلة الثانية على ناغازاكي. ويتفق المؤرخون عمومًا على أن ذلك العمل كان غير ضروري على الإطلاق، وأن دخول الاتحاد السوفياتي الحرب هو الذي رجّح كفة الاستسلام الياباني. فبعد كل شيء، كان عدد القتلى في يوم واحد جراء قصف طوكيو بالنابالم أكبر حتى من عدد ضحايا هيروشيما.
والآن، ها نحن نشهد أحداثًا، على الرغم من أن العقل يكاد يرفض تصديقها، أكثر تدميرًا من ذلك الحدث الكارثي. إن القوة التدميرية التراكمية للقنابل التي ألقتها إسرائيل على غزة تعادل ستة أضعاف قوة قنبلة هيروشيما أو أكثر -أي ما يقارب ما بين 90 و100 ألف طن من المتفجرات الشديدة. ويقال إن حجم الدمار في غزة هو الأكبر الذي يلحق بأي منطقة حضرية في التاريخ الحديث، بما في ذلك المدن اليابانية المقصوفة بالقنابل الذرية. والآن أطلقت إسرائيل أيضًا سلاحًا أكثر شمولًا وفتكًا: التجويع، ضد من تبقى من السكان المدنيين في قطاع غزة. وتقول جماعة تابعة للأمم المتحدة إن المجاعة وصلت إلى مرحلة "السيناريو الأسوأ". وغالبًا ما تُذكر أعداد القتلى الإجمالية في غزة في حدود 60 ألفًا، لكن الأرجح أنها تصل إلى مئات الآلاف. وسوف يعاني معظم الذين سينجون طوال حياتهم من آثار جسدية ونفسية لا تشفى.
إن ما يجري في غزة هو إبادة جماعية بوضوح. وعلى الرغم من التأخر في الاعتراف بذلك، أصدرت منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية، "بتسيلم"، في 28 تموز (يوليو)، تقريرًا تحت عنوان بارز كُتب كله بأحرف إنجليزية كبيرة: OUR GENOCIDE. وخلص التقرير إلى أن "دراسة سياسة إسرائيل في قطاع غزة ونتائجها المروعة، إلى جانب التصريحات الصادرة عن كبار السياسيين والقادة العسكريين الإسرائيليين بشأن أهداف الهجوم، تقود إلى الاستنتاج الحاسم بأن إسرائيل تقوم باتخاذ إجراءات منسقة ومتعمدة لتدمير المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة. بكلمات أخرى: إسرائيل ترتكب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة".
وفي اليوم نفسه، أصدرت منظمة "أطباء من أجل حقوق الإنسان - إسرائيل" بيانها الخاص، وأجد من المهم اقتباسه مطولًا:
"اليوم، تنشر منظمتنا ورقة موقف توثق هذا الاعتداء على حقيقته: تفكيك متعمد وتراكمي لنظام الرعاية الصحية في غزة، ومعه قدرة سكان القطاع على البقاء. وهذا يرقى إلى أن يكون إبادة جماعية. إن قصف إسرائيل للمستشفيات، وتدميرها للمعدات الطبية، واستنزافها للأدوية، جعلت تقديم الرعاية الطبية -الفورية وطويلة الأمد- أمرًا شبه مستحيل. لقد انهار النظام تحت وطأة الهجمات المتواصلة والحصار.
ثمة العشرات يموتون يوميًا بسبب سوء التغذية. ولا يحصل 92 في المائة من الأطفال بين سن ستة أشهر وسنتين على ما يكفي من الطعام. وقد مات بالفعل ما لا يقل عن 85 طفلًا جوعًا. كما هجّرت إسرائيل 9 من كل 10 من سكان غزة، ودمرت أو ألحقت الضرر بـ92 في المائة من المنازل، وتركت أكثر من نصف مليون طفل بلا مدارس ولا أي استقرار. وقضت على الخدمات الصحية الأساسية –بما في ذلك غسيل الكلى، ورعاية الأمهات، وعلاج السرطان، وإدارة مرض السكري.
إن هذه ليست أزمة مؤقتة. إنها استراتيجية للقضاء على مقومات الحياة. وحتى لو أوقفت إسرائيل هجومها اليوم، فإن الدمار الذي أحدثته يضمن استمرار الوفيات التي كان يمكن تفاديها -بسبب الجوع، والعدوى، والأمراض المزمنة- لسنوات مقبلة. وهذا ليس ضررًا جانبيًا. هذه ليست نتيجة عرضية للحرب. إنها صناعة منهجية لظروف معيشية تكون الحياة فيها غير ممكنة. إنها حرمان من إمكانية البقاء. إنها إبادة جماعية". (انتهى الاقتباس)
من خلال اتهامهما إسرائيل بتدمير المجتمع الغزّي عن طريق خلق ظروف معيشية لا تسمح بالحياة، تستخدم كلتا المنظمتين تعريفات وضعتها "اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية" للعام 1948، وأحد هذه التعريفات هو: "إلحاق الأذى عمدًا بالمجموعة من خلال فرض ظروف حياة محسوبة بحيث تؤدي إلى تدميرها المادي، كليًا أو جزئيًا".
يصاحب هذا إحساس عام بأن اتجاه المد شرع في الانقلاب على إسرائيل. فقد أعلنت فرنسا وبريطانيا وكندا عن خطط للاعتراف بدولة فلسطينية -وإن كانت الأخيرتان قد ربطتا هذا الاعتراف بشروط. وأدلى أشخاص بارزون بتصريحات تدعو إلى إنهاء حملة التجويع، من بينهم باراك أوباما، ودونالد ترامب، وكير ستارمر، على الرغم من أن إيقاف شحن الأسلحة إلى إسرائيل -وهو ما يمكن لترامب تحقيقه– لا يبدو قادمًا على الطريق، وهو ما يجعل كلماته تبدو مجرد إلماح فارغ إلى الفضيلة.
لماذا استغرق الأمر كل هذا الوقت؟
النظرة العامة تجاه هذه التصريحات هي: ما الذي أخّركم كل هذا الوقت؟ لقد وصف أولئك الذين كانت لديهم عيون لترى ما يجري بأنه إبادة جماعية منذ الأيام الأولى للحرب في العام 2023، حين أغلقت إسرائيل حدود غزة وبدأت حملتها بالقصف الجماعي. كان ذلك واضحًا لكريغ موخيبر، مدير مكتب نيويورك في "مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان"، الذي أعلن في 28 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 استقالته من منصبه. وفي رسالة استقالته كتب: "... إن المذبحة الشاملة الحالية في حق الشعب الفلسطيني، المتجذّرة في أيديولوجية استعمارية استيطانية إثنية قومية، في استمرار لعقود من اضطهادهم وتطهيرهم المنهجي، والقائمة بالكامل على وضعهم كعرب، والمصحوبة بتصريحات صريحة عن النية صدرت عن قادة في الحكومة والجيش الإسرائيلي، لا تترك أي مجال للشك أو الجدل... هذه حالة إبادة جماعية نموذجية. لقد دخل المشروع الاستعماري الاستيطاني الإثني القومي الأوروبي في فلسطين مرحلته الأخيرة، متجهًا نحو التدمير السريع لآخر ما تبقى من الحياة الفلسطينية الأصلية في فلسطين".
في النهاية، جعلت إسرائيل الإبادة الجماعية التي تمارسها واضحةً بشكل فاضح، على الرغم من أن تصريحات قادة إسرائيليين في بداية الحرب كانت كافية لتوضيح نواياهم، وكان أحد الأسباب التي جعلت "محكمة العدل الدولية" تحكم في كانون الثاني (يناير) 2024، ردًا على اتهام جنوب إفريقيا لإسرائيل بممارسة الإبادة الجماعية، بأن هذا الوصف معقول ومحتمل. وأخيرًا، لم يعد بالإمكان إنكاره بشكل معقول.
لماذا استغرق الإنكار كل هذا الوقت؟ ولماذا ما يزال مستمرًا؟ أخلص إلى أن السبب هو أن ما تفعله إسرائيل في غزة -وتحت ملاحظة ورقابة أقل في الضفة الغربية أيضًا- يعكس للغرب ماضيه الاستعماري الوحشي. إن المذبحة الجماعية الجارية في غزة لا تختلف عن عمليات الإبادة التي ارتكبها الغزاة الأوروبيون في الأميركتين وإفريقيا وآسيا. فهل نجد صعبًا على التصديق أن إسرائيليين يقولون بالفعل: اقتلوا الأطفال لأنهم سيكبرون ليصبحوا إرهابيين؟ هل نتذكر أن العقيد في الجيش الأميركي، جون تشيفينغتون، أمر بقتل الجميع في هجوم شنه على مخيم هادئ للسكان الأميركيين الأصليين في "ساند هيل"، كولورادو، بمن فيهم الأطفال؟ "اللعنة على أي رجل يتعاطف مع الهنود!... اقتلوا وجزّوا فروة رأس الجميع، كبارًا وصغارًا؛ البيوض تصنع القمل". وكانت هناك العديد من هذه المجازر، من نيو إنجلاند في القرن السابع عشر إلى كاليفورنيا في القرن التاسع عشر. كانت تلك إبادة جماعية من الساحل إلى الساحل.
وإذا كنا ننظر الآن إلى استخدام التجويع كسلاح في رعب، فلنتذكر كيف كان قتل قطعان حيوانات البيسون (الجاموس الأميركي) عنصرًا محوريًا في استراتيجية الجيش الأميركي لهزيمة قبائل السيو والكومانش التي كانت تسيطر على مساحات واسعة من الغرب الأميركي، عندما واجه الجيش صعوبة في هزيمتهم عسكريًا. في ذلك الحين، قال الجنرال فيليب شيريدان إن قتل البيسون ضروري "لحل المسألة الهندية". وهو نفسه شيريدان الذي يُنسب إليه القول: "الهندي الجيد الوحيد هو الهندي الميت". وسواء كان هو الذي قالها بالفعل أم لا، فإنها كانت فكرة منتشرة على نطاق واسع في الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر. وإذن، لا ينبغي أن نتفاجأ بسماع تصريحات مماثلة تصدر من المستعمرة الاستيطانية اللاحقة المسماة إسرائيل.
إن ما نراه اليوم ليس سوى نسخة عالية التقنية من تاريخنا نفسه. بدلًا من حصد السكان الأصليين وإسقاطهم برصاص مدافع "غاتلينغ" الرشاشة في مذبحة "ووندد ني"، ثمة الآن طائرات "إف-16" وهي تلقي قنابل زنة الواحدة منها 2000 رطل على رفح. ونحن مصدومون لرؤية هذا، لأن إسرائيل تمارس في القرن الحادي والعشرين ما مارسته الدول الغربية منذ القرن الخامس عشر. إن إسرائيل هي، من نواحٍ كثيرة، عودة إلى الوراء. كانت الفكرة الصهيونية لإقامة دولة يهودية قد ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر في ذروة الاستعمار الغربي. وكانت فكرة أن البيض الأوروبيين هم جنس متفوق له الحق في حكم الآخرين تمنح شرعية فكرية للاستيلاء على أراضي الآخرين وارتكاب الإبادة الجماعية في حقهم. ونحن نسمع صداها اليوم في ادعاءات التفوق اليهودي والحق في أرض فلسطين. وغالبًا ما تُبنى هذه الادعاءات، كما كان حال الادعاءات الغربية بالهيمنة، على نوع من الادعاء الديني. لكن ذلك في النهاية هو سرقة.
إذا كان ما تفعله إسرائيل في غزة يُقارن بشكل متزايد بما فعله هتلر والنازيون، فإن ذلك يعود جزئيًا إلى أن هتلر نفسه كان نوعًا من العودة إلى الماضي. ويُقال إن جريمته الكبرى كانت معاملته الأوروبيين البيض بالطريقة نفسها التي عاملوا بها الشعوب غير البيضاء في الجنوب العالمي. كان لدى هتلر حلم بأن يستوطن الألمان سهوب أوروبا الشرقية بالطريقة التي استوطنت بها الولايات المتحدة الغرب الأميركي. وكان من المعجبين المتحمسين بكارل ماي، الكاتب الألماني لروايات مغامرات الحدود الغربية، والذي سمّى قطاره "أميركا". لكن المشكلة في حالة هتلر هي أن "السكان الأصليين" في سهوب أوروبا كانوا يملكون دبابات ولم يكن من السهل إبادتهم.
الاستعمار منضفر في نسيج حياتنا
لو كان الاستعمار مجرد حقيقة تاريخية ولم يعد حاضرًا في العالم الحديث، ربما كان المد قد انقلب ضد إسرائيل في وقت أبكر. لكنه حقيقة أساسية، وهو متجذر في حياتنا لدرجة أننا بالكاد نعي وجوده. كنتُ قد بدأت بطرح السؤال عمّا إذا كان للكتابة عن الإبادة الجماعية أي معنى في مواجهة هذا الرعب الهائل. وبالطبع، أجيب بأن علينا جميعًا أن ترفع أصواتنا، وأن قطراتنا الصغيرة الكثيرة ستتحول إلى تسونامي يجعل أي دعم آخر لإسرائيل أمرًا غير مقبول. لكنني أرى، بالإضافة إلى ذلك، أن قضية الاستعمار التي تتخلل حياتنا هي ما يربط بين ما أكتبه هنا وبين بناء المستقبل في الأماكن التي نعيش فيها.
فبينما انتهى الاستعمار السياسي إلى حد كبير في العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، حل محله شكل أكثر خبثًا من الاستعمار الاقتصادي والثقافي الذي ما يزال يُبقي الجنوب العالمي مستعبدًا وأسيرًا. يتجسد ذلك في عبودية الديون التي ما تزال تعيق الدول عن تطوير اقتصاداتها الخاصة، وهو ما كتب جون بيركنز في كتابه "اعترافات قاتل اقتصادي" عنه باعتباره أمرًا مقصودًا تمامًا. كما يتمثل الاستعباد أيضًا في التلاعب السياسي السري الذي يدبر الانقلابات ويطيح بالحكومات كلما خرجت قيادة وطنية عن الخط المرسوم لها -وربما الأعمق من ذلك، في ملاحظة من يقوم بالعمل نفسه.
من الجدير بالملاحظة أن جايسون هيكِل، أحد أبرز المدافعين في العالم عن فكرة "خفض النمو" degrowth -أي تقليل التدفق المادي والطاقة لمواجهة الأزمة البيئية– هو أيضًا، وليس من قبيل الصدفة، أحد أبرز الخبراء في العالم في قضايا عدم المساواة الاقتصادية. في العام 2024 نشر هيكِل مقالًا في مجلة "الطبيعة" Nature بعنوان: "التبادل غير المتكافئ في الاقتصاد العالمي". وكانت النتائج التي خلص إليها المقال صادمة:
"وجدنا أنه في العام 2021، وهو آخر عام تتوفر فيه بيانات، تم استهلاك 9.6 تريليون ساعة عمل في الإنتاج من أجل الاقتصاد العالمي. ومن ذلك، أسهم الجنوب العالمي بنسبة 90 في المائة. وقد أسهم الجنوب بالنسبة الكبرى من العمل في جميع مستويات المهارة: 76 في المائة من إجمالي العمل عالي المهارة؛ و91 في المائة من العمل متوسط المهارة؛ و96 في المائة من العمل منخفض المهارة. وفي العام نفسه، خُصصت 2.1 تريليون ساعة عمل لإنتاج السلع المتداولة دوليًا (ويقصد بمصطلح "السلع المتداولة" في هذا البحث السلع والخدمات معًا). وتكاد نسبة المساهمة بين الشمال والجنوب في إنتاج السلع المتداولة تماثل نسبتها في إجمالي الإنتاج، حيث أسهم الجنوب بـ91 في المائة من مجموع العمل (73 في المائة من العمل عالي المهارة، و93 في المائة من متوسط المهارة، و96 في المائة من منخفض المهارة)".
وفي مقال نُشر في العام 2022، وكان هيكِل أيضًا مؤلفه الرئيسي، وجد الباحثون أن جزءًا هائلًا من اقتصاد دول الشمال يُستخرج من الجنوب، حتى في الحقبة المسماة بـ"ما بعد الاستعمار". ويجري التلاعب بالنظام من خلال إبقاء أسعار الموارد منخفضة وأسعار السلع المصنعة مرتفعة.
وجاء في المقال: "يؤكد هذا البحث أن ’الاقتصادات المتقدمة‘ في الشمال العالمي تعتمد على استحواذ صافٍ وكبير على الموارد والعمل من الجنوب العالمي، يُستخرج عبر فروق أسعار مفروضة في التجارة الدولية. ومن خلال الجمع بين الأفكار الواردة في الأدبيات الكلاسيكية عن التبادل غير المتكافئ، والرؤى المعاصرة حول سلاسل السلع العالمية، والطرق الجديدة لقياس النطاق المادي لتحويلات الموارد المضمَّنة، تمكنا من تطوير نهج جديد لتقدير حجم وقيمة استنزاف الموارد من الجنوب العالمي. وتُظهر نتائجنا أنه عند قياسه بأسعار الشمال، بلغ حجم الاستنزاف 10.8 تريليون دولار في العام 2015، و242 تريليون دولار في الفترة بين 1990 و2015 - وهو مكسب ضخم للشمال يعادل ربع الناتج المحلي الإجمالي الشمالي. وفي المقابل، تجاوزت خسائر الجنوب من خلال التبادل غير المتكافئ مجموع ما تلقّاه من مساعدات خلال تلك الفترة بثلاثين ضعفًا".
إن الإبادة التي تنفذها إسرائيل في غزة هي الفظاعة المباشرة التي نراها أمام أعيننا. وثمة في الخلفية حروب أخرى بالوكالة مرتبطة باستخراج الموارد يخوضها الغرب في السودان والكونغو. وبطبيعة الحال، يمكننا أن ننظر إلى سلسلة الحروب في غرب آسيا وشمال إفريقيا -العراق، ليبيا، سورية، وربما حرب قادمة مع إيران- باعتبارها صراعات على السيطرة على الطاقة، واندفاعًا غربيًا للحفاظ على هيمنته الاستعمارية. إنها كلها أجزاء من مشهد واحد.
وإذن، ما الذي يمكن أن نفعله والذي يكون أكثر معنى في مواجهة كل ذلك، نحن الذين نعيش في الدول الغربية، خاصة في الدولة التي تمثل الضامن النهائي للاستعمار الغربي، الولايات المتحدة؟ كما قلت، يمكننا -بل ويجب علينا- رفع أصواتنا ضد الإبادة الجماعية الجارية، مهما شعرنا بالصِّغَر أو العجز. هذا ضروري لكي نكون بشرًا كاملين. ثم، على مستوى أوسع، علينا أن نتفحص بعمق دور الاستعمار المستمر في حياتنا، ونحن معتمدون كما نحن على تدفق العمل والموارد والدخل من الجنوب العالمي. وبما أن جزءًا كبيرًا من هذا مرتبط بالطاقة الأحفورية -التي تأتي منها معظم الاضطرابات المناخية العالمية- فإن التعامل مع هذه القضية هو شيء أساسي أيضًا لمواجهة أزمة المناخ. علينا أن نحصل على عيش شريف، لأن عيشنا الحالي ليس كذلك. إنه مبني على قرون من الاستنزاف الاستعماري.
إن النموذج الذي أكتب عنه هنا -بناء المستقبل في المكان- يتعلق كله ببناء اقتصادات مجتمعية قائمة على أسس الطبيعة، تبدأ في المجتمعات والأقاليم البيئية التي نعيش فيها. وهو يتعلق بالتحكم المحلي في التمويل للاستثمار في شبكات من المؤسسات المجتمعية -التعاونيات العمالية، وموردي الغذاء المحليين، وتعاونيات الطاقة، والاقتصادات الدائرية، والإسكان الاجتماعي، والإنترنت المجتمعي، وغير ذلك- التي تحررنا من النظام العالمي للاستغلال والاستخراج. والتي تنقلنا من هذه القرون الخمسة من الاستعمار إلى عالم عادل للجميع.
ولندفع، بكل ما فينا، نحو إنهاء معاناة شعب غزة، وإعلان التجربة الاستعمارية للصهيونية فشلًا واضحًا. إنها لم تكتفِ بوحشية التعامل مع الفلسطينيين؛ بل شوّهت أخلاقيًا ونفسيًا شريحة كبيرة من الشعب اليهودي، وهي مفارقة مأساوية بالنظر إلى التاريخ اليهودي. وفي الوقت نفسه، فلنسأل لماذا سار العالم الغربي في الغالب مع ما هو بوضوح إبادة جماعية، ونفهمه باعتباره التعبير المتأخر عما مارسه الغرب طيلة نصف ألفية. ثم لنغُص في الجذور الاقتصادية لذلك ولأزماتنا العالمية المتعددة والمتسارعة، ولنبدأ عمل التغيير في مجتمعاتنا نحن. قد يكون من الصعب رؤية قيمة أحداث سببت كل هذا العذاب، ولكن إذا دفعتنا غزة إلى التفكير في ماضينا الاستعماري وحاضرنا، والتجاوز عنهما، فلن يكون كثير من الذين ماتوا هناك قد ماتوا عبثًا.
*باتريك مازا Patrick Mazza: كاتب وصحفي وناشط تقدمي أميركي. بدأ مسيرته في العام 1981، ويُعرف بتركيزه على القضايا البيئية، العدالة الاجتماعية والسلام، مع سعيه لصياغة محتوى يسلط الضوء أيضًا على حلول قابلة للتطبيق ومستدامة. عمل محررًا لمجلة "كاسكاديا بلانيت" Cascadia Planet، وشارك في تأسيس مبادرات بيئية محلية وإقليمية في شمال غرب الولايات المتحدة. عمل على توثيق قضايا العدالة المناخية والسياسات البيئية لأكثر من ثلاثة عقود، وله مقالات ودراسات تركز على التحول إلى الطاقة النظيفة وبناء مجتمعات مستدامة.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: In Israels Genocide of Gaza, We See the Face of Five Centuries of Western Colonialism