الراي
يطلّ رأس داعش حينًا ويغيب حينًا آخر، كأفعى تجيد الاختباء والتخفّي، وتجيد توظيف السمّ في أنيابها كلما أطلّت برأسها. إننا نعي أن داعش وأخواتها لم تنشأ من عدم، وأن الحاضنة الكبرى لهذا الفكر وتفرعاته معروفة للجميع، حتى غدت بمثابة «الفقّاسة» الآلية التي تبذر الفكر المتطرّف، الرافض للآخر، غير المعترف بالاختلاف، والفاقد لقيم التقبّل والعيش المشترك، وإن تشدّق بغير ذلك لغةً وبيانًا ومحسّنات بديعية.
لقد خرّجت هذه الحاضنة أجيالًا من الظلاميين، موجَّهين للداخل، وموظَّفين – في كثير من الأحيان– من الخارج، أهدافًا وتمويلًا وخرابًا. وأصبحت السيرة الجوانية والمسيرة الخارجية مكشوفتين، بما لا يمكن ستر سوءتهما.
لقد توارت داعش حين انهار مشروعها المشبوه، وبعد أن أعملت السيف في رقاب المسلمين من مختلف الأعراق، وأعلنت صوت الموت الأسود لكل من يشقّ عصا الطاعة. سقطت فتوارَت، وأخفت رأسها في الرمل انتظارًا للحظة سانحة. وهنا لا بد أن نقول إن رأس داعش، وقد تخثّر فيه السمّ، ليس هو الأخطر، وإن حافظ على حياة التنظيم في حالة البيات القسري؛ فالأفعى قد يُقطع جسدها، ولا يؤتمن رأسها، لكن الأخطر من ذلك هو عقل داعش: فكرها ومرتكزاتها، التي تتسرّب إلى عقول بعض الفئات المغرَّر بها، كما تتسرّب الرطوبة إلى الجدران الإسمنتية.
عقل داعش لم تُنشئه داعش، بل كانت نتاجًا له؛ بمعنى أن الأم الحاضنة، أو الجماعة الأم الكبرى لهذه التنظيمات، هي من بنى هذا العقل، وبرمجه، وأطلقه في أصقاع الأرض يعيث فسادًا وإفسادًا وموتًا. لذلك أجزم أن داعش وأخواتها ليست سوى أعراض وإصدارات لفكر الجماعة الأم؛ فالفكر في جوهره واحد، والمنهج هو ذاته منهجهم، وقادتهم هم خرّيجو هذه المدرسة المتوارية بيننا، المتلبّسة بلباسنا، والمتشدّقة بهمومنا ومشكلاتنا. فهي تتقن فنّ التورية والتقيّة، وتعرف كيف تعكّر الماء لتلقي بشباكها.
نعم، رأس داعش المسموم نعرفه، لكن لا يجوز أن ننسى صُنّاع عقلها، وبُناة نهجها وفكرها، ومن رسموا لها مسيرة سيوفها ووحشية خناجرها. اليوم نعي أكثر قاعدة هذا الفكر وحاضنته، وأصبحنا أكثر معرفة ووعيًا بأن الأذرع قد تختلف مسمياتها وملامحها الخارجية، وقد تبدو – لوهلة– متغايرة أو متضادة، لكن ذلك لم يعد ينطلي على كل متدبّر.
فلو تتبعنا، مثلًا، مسيرة وتحولات عدد من قادة داعش وأخواتها، لعرفنا بوضوح المنبع والمجرى والمصبّ؛ فجميعهم تدرّسوا وتخرّجوا من الحاضنة ذاتها، التي تتمظهر بغير جوهرها، وتخفي سواد سريرتها. كما أن محاولة خلق تفريعات عديدة بمسميات مختلفة، وبثّها هنا وهناك، تشبه تمامًا ما يفعله النهر قبيل المصبّ، حين يُنشئ دلتا خصبة بكل ما حمله من منبعه، ساعيًا لأن تكون البيئة بيئته، والمآلات مآلاته. وهذه حقيقة بُنيت عبر سنين متراكمة، وخديعة كبرى تكشّفت بكامل ملامحها.
وبناءً على كل ذلك، فإن سبيل قطع رأس داعش وأخواتها لا يكون إلا بقطع أيدي صُنّاع عقلها، وإنهاء بناة منهجها ورعاة نهجها. لا بد من محاصرة الأم الحاضنة، وتفكيكها، وكشفها على الملأ؛ لأن حاضر الأمة والمنطقة ومستقبلهما لا يحتملان مزيدًا من التأجيل، ولا محاولات المهادنة أو إعادة التأهيل.
فعلى الرغم من كل هذا الدمار والفتك بعضد الأمة وحرمتها، ما يزال خطاب الأم الحاضنة هو ذاته، بذات العنجهية وتلفيق الحقائق، ومواصلة تزييف الوعي، في محاولات لا تتوقف للالتفاف على هذا الانكشاف الاستراتيجي، والبقاء على قيد الحياة بالأدوات القديمة نفسها، دون أدنى مراجعة لأدبياتها أو جوهر فكرها الظلامي؛ وكأنها نعامة تعتقد أن دسّ رأسها الصغير في الرمل سيُنجيها، ويمهّد لعودتها إلى الواجهة من جديد. وهو خطأ قاتل، قد يقودها إلى موتٍ أبدي.