سوشيال ميديا
عيسى الشعيبي
بقدر قليل من التجاوز والايجاز والتعميم، يُعادله قسط وافر من الرغبة في تسليط الضوء على بعض المتغيرات المتراكمة داخل الساحة الخلفية لهذه الحرب المفتوحة، لأول مرة، على احتمالات سياسية فلسطينية واعدة، يمكن لنا التمييز بين ثلاث جبهات فض طوفان الاقصى اقفال ابوابها بضربة واحدة، ورسم باقتدار خطاً فاصلاً بين زمنين مختلفين في تاريخ الصراع الطويل، وذلك كله في اطار محاولة تستظهر لُباب الغاية المبثوثة في ثنايا هذه المقاربة لمخاض الحرب على الجبهة الثالثة.
ومع الاخذ بعين الاعتبار حقيقة ان هناك معارك أخرى فرعية متفاوتة الأهمية، جارية في المحيط الفلسطيني المجاور، على شكل جبهات اسناد ومؤازرة، الا انها لا تُقارن، بالقياس الى الملحمة الكبرى في غزة، حيث القاطرة التي تجر العربات على السكة، وتهدر ملء الابصار والاسماع على الشاشات، فيما الوقائع المتصاعدة يوماً بعد آخر في الضفة الغربية، المنذرة بانفجار أوسع، واخطار أشد من ذي قبل، تمثّل الجبهة الثانية، المتوارية بلا تواضع خلف المشاهد المروعة في القطاع المليء بالبؤس والبأس والانفاق والابراج السكنية المهدمة.
اما الحرب على الجبهة الثالثة (بيت القصيد في هذه المطالعة) فهي جبهة الوعي والادراك والمفاهيم، أي تلك التفاعلات الجارية في فضاء الساحة الداخلية المقابلة، الناجمة عن الحرب التي وقعت يوم 7اكتوبر المجيد، واستمر زلزالها لست ساعات وانتهت في اليوم ذاته، مُحققة نتائج تأسيسية لن تمّحي ابداً، ولن تسقط من الذاكرة مهما طال الوقت، فقد جاءت مكتسباتها التاريخية أثمن بكثير من أعداد القتلى والجرحى والاسرى، ومخرجاتها أكبر من مدخلاتها، ومغزاها اهم من اقتحام نحو 50 مستوطنة وثكنة عسكرياً في غلاف غزة، حيث أتت التفاعلات الهائلة أوسع من حدود القطاع، وأعمق من معركة غير مسبوقة في سجل الكفاح الفلسطيني، غيّرت وجه الشرق الأوسط، وقد تغيّر النظام الدولي، ليس من هيروشيما وبرلين، او حتي من كييف، وانما من غزة هذه المرة.
فقد صنعت حرب 7اكتوبر، وهي الحرب الهجومية الفلسطينية الأولى من نوعها على مدى مائة سنة، نقطة فارقة في مجرى الصراع، الذي كان فيه زمام المبادرة دائماً بيد دولة الاحتلال، وحفرت في حيّز الوعي والمخيال العبري حقائق نهائية، لن تتمكن آلة الحرب الإسرائيلية الغاشمة من الغائها، وارست سوابق لا سابق لها من حيث الشكل والمضمون، أهمها سابقة اقتحام القلعة الحصينة، وإدارة الحرب من داخل الاسوار لا من خارجها، وحققت نتائج في فضاء الوعي الإسرائيلي لا تزال متفاعلة بعد، من بينها ان القوة الإقليمية العظمى فقدت حصانتها الأمنية والعسكرية، سقطت هيبتها، كما انكسر غرورها، تحطمت صورتها، تبدد ردعها، فبدا ذلك كله بمثابة المسمار الأكبر في نعشها.
واحسب ان الفشل الاستخباري، الذي يتم التذرع به لتبرير كل الخسارات الاسرائيلية الفادحة، والتعلل به كسب اوحد لما جرى في غلاف غزة، ليس هو كامل القصة لكل هذه التخبطات والتحولات الجارية تباعاً في دواخل المجتمع المزروع بالقوة العارية في هذه المنطقة، حيث يتضح اليوم أكثر من ذي قبل، سيما بعد الإخفاق المديد للقوات الغازية المتجحفلة في احياء غزة، وعجزها عن انجاز أي من أهدافها المعانة، ان إسرائيل مجرد دولة على جناح طائرة حربية اميركية، وانها بدون السيطرة الجوية المطلقة هذه، ليست سوى دولة أخرى من دول العالم الثالث، وذاك على العكس من الصورة النمطية، التي كوّنتها في الاذهان العامة عن مضائها الحربي وبأس أجهزتها الأمنية.
ربما يكون من المبكر بعض الشيء الحديث عما يجري على جبهة الوعي الاسرائيلي، قبل ان تضع هذه الحرب الانتقامية اوزارها، خاصة وان مفاعيل عملية كيّ الوعي لم تنته بعد، وان دواخلها لم تخرج الى السطح الى الآن، بفعل الصدمة الاستراتيجية والرقابة العسكرية الصارمة والتستر على الحقيقة المريرة، غير ان المخاض النهائي لمجتمع عديم الصبر في الحرب الطويلة، قليل القدرة على تحمّل الخسائر في الأرواح والممتلكات، بات يعيش بنفسه ويرى بأم عينه تزعزع الأركان الثلاث، التي تقوم عليها دولة الاحتلال (الامن والهجرة والاستيطان) مما يرجّح الاستنتاج لدينا، ان هذا المخاض سوف يُسفر في وقت غير بعيد، عما اسفرت عنه كل الحروب الكبرى السابقة من متغيرات عميقة الغور، ناهيك عما يجره الفشل، ان لم نقل الهزيمة، من عواقب وخيمة، ليس اقلها ازدياد حدة القلق الوجودي، عدم الثقة بالنفس، والشك المصيري بمستقبل دولة، يُعيد بعض قادتها الى الاذهان "لعنة الثمانين" من العمر، الراسخة في الميثولوجيا اليهودية