حين تحلّ نسب المشاهدة مكان المصداقية... خطر المعلومات المضللة عبر وسائط التواصل الاجتماعي*م. زيد خالد المعايطة
الراي
أصدرت دولة الإمارات العربية المتحدة مؤخرًا قانونًا جديدًا يشترط على من يعرف بالمؤثرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي الحصول على تراخيص رسمية قبل مزاولة أي نشاط دعائي، وقد يبدو هذا الإجراء تنظيماً إدارياً لسوق إعلانات آخذة بالتوسع، لكنه يعكس في جوهره إدراكاً متزايداً لخطر المعلومات المضللة المنتشرة عبر منصات ومواقع المؤثرين،فهؤلاء الافراد الذين يمتلكون جماهير ضخمة، بات بإمكانهم عبر منشور او فيديو قصير واحد التأثير على توجهات الرأي العام أو إطلاق إشاعة ما أو حتى تعميق الانقسامات الاجتماعية من دون أي التزام بمعايير مهنية أو تحقق من صحة المعلومات، هنا تتجلى خطورة التقاء صفة "المؤثر" مع انتشار "المعلومة المضللة" عبر وسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة.
المؤثر في نهاية المطاف ليس صحفيًا ملتزمًا بمواثيق مهنية، ولا باحثًا يقدم حقائق دقيقة، إنما شخص عادي صنع شهرته من خلال بناء صورة أو أسلوب حياة حصل لسبب او لآخر على نسبة مشاهدات عالية وتحول في نظر متابعيه الى مرجع يُستشار، أما مفهوم التضليل في هذا السياق فهو نشر بيانات خاطئة، أو ناقصة، أو مثيرة للجدل من دون تحقق، وقد يحصل ذلك بدافع جذب الانتباه، أو نتيجة الجهل بحقيقتها. وما يزيد الخطورة أن هذه الرسائل المغلوطة تصدر عن أشخاص محبوبين وموثوقين فتُستقبل على أنها حقائق دامغة.
هذا الخطر ليس مجرد تحليل نظري، فإبان جائحة كورونا، ضخَّ بعض المؤثرين وصفات "علاجية" غير مثبتة وزرعوا الشكوك حول اللقاحات مما انعكس ذلك سلبًا على الصحة العامة،وفي عالم المال والاقتصاد خسر آلاف الشباب مدخراتهم عندما انجرفوا وراء الترويج لمشاريع مشبوهة أو عملات رقمية مزيفة قادها مؤثرون، وعلى صعيد السياسة فقد غذّى التضليل حالة الانقسام والاستقطاب بوضوح وتحولت قضايا حساسة في منطقتنا إلى وقود للتحريض والانفعال، على حساب النقاش الرصين، مما عمَّق الشروخ المجتمعية.
من منظور العلوم السلوكية، لا تستمد جاذبية المؤثرين من خبرتهم، بل من قربهم المفترض (وليس بالضرورة الحقيقي) من الناس وطريقتهم البسيطة في التعبير،فالمراهقون بشكل خاص يرون فيهم قدوة أو صديقًا يفهم لغتهم ويجسد ما يتمنون أن يكونوا عليه، ومع تزايد عدد المتابعين يترسخ لدى المتابعين شعور بأن هذا الشخص جدير بالثقة، وهو ما يُعرف “بتأثير الجماعة”. وتزيد الشهرة من قوة هذا الانطباع، إذ يختلط حضور المؤثر الواسع في الأذهان مع افتراض امتلاكه للمعرفة الحقيقية، ومع تكرار الرسائل، حتى لو كانت خاطئة، تبدأ بالظهور وكأنها صحيحة، وهو ما يسمى بتأثير “الحقيقة الوهمية”. وعندما يقدم المؤثر محتوى يتوافق وميول المتابعين المسبقة يتضاعف أثره بسبب الميل الطبيعي إلى تصديق ما يؤكد قناعاتهم، وهكذا يجد المراهقون، وهم في طور بناء هويتهم، أنفسهم أكثر عرضة للتأثر بهذه الرسائل.
تشكل الاجراءات الرقابية والتشريعية جزءًا من الحل ولكنها وحدها لا تكفي، إذ لجأت دول عدة لسياسات تغرّم منصات التواصل الاجتماعي على السماح بنشر محتوى ضار، وتفرض شفافية في الإعلانات، بينما بدأت المنصات الكبرى بممارسات التدقيق وإرفاق المنشورات بعلامات تحقق أو تقليل انتشار المعلومات المشبوهة، وتنبه المستخدمين قبل إعادة النشر،ورغم أهمية هذه الإجراءات في الحد من ضرر المعلومات المضللة، إلا أنها لا تلغيه، لكنها تمنح المتلقي فرصة للتوقف والتفكير.
الاقتصار على ضبط المؤثرين ليس كافيًا، فدور المتلقي أساسي وخاصةً المراهقين الأكثر التصاقًا بالفضاء الرقمي،هنا تبرز أهمية تمكين وحماية الفئات الشابة عبر إدخال التربية الإعلامية والرقمية في المناهج حتى يكتسبوا مهارات التمييز بين الشهرة والمصداقية، وفتح نقاشات عائلية دائمة حول ما يستهلكه الأبناء رقميًا وكيف تؤثر الخوارزميات على رؤيتهم للعالم، وللمنصات الرقمية دور في تطوير أدوات لإبراز مؤشرات المصداقية، وتفعيل الرقابة الأسرية، وتذكيرات ذكية تدعو للتروي قبل إعادة النشر،فبهذه الجهود المشتركة يصبح بالإمكان تأسيس وعي جماعي عميق يقي الأجيال الشابة أخطار المعلومات المضللة.
التضليل عبر المؤثرين تخطى كونه ظاهرة اجتماعية مزعجة، وصار يهدد الصحة العامة، والأمان المالي، والثقة المجتمعية. وفي السياق العربي تتزايد خطورته كلما استُغل في إذكاء الانقسامات بدل أن يكون وسيطًا لتعزيز التواصل الإيجابي،فحماية المراهقين والأجيال الشابة مسؤولية جماعية للدولة، والمدرسة، والمنصة، والأسرة،وإذا أُهملت هذه المسؤولية، لن يبقى المستقبل رهين الحقيقة؛ بل رهينة الأعلى صوتًا، أياً كان ومهما كانت غاياته.