عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    04-Jan-2020

كيف تأثر المدارس السياسية الفكرية في السياسة الخارجية الأمريكية؟ - د. بشار نرش
 
الجزيرة - تتحرك السياسة الخارجية لأي دولة من دول العالم وفق منهج معين يمثل الإطار العام الذي يحكم حركتها على الصعيد الدولي، ولا تخرج السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية منذ استقلالها عن إطار هذه الفكرة، سواء أكان الحزب الحاكم ديمقراطي أم جمهوري. فمنذ استقلال أمريكا عن بريطانيا عام 1776م، بدأت تظهر بعد الشخصيات السياسية البارزة التي لعبت دوراً رئيسياً في نشوء عدد من المدارس الفكرية في السياسة الخارجية الأمريكية.
 
هذه المدارس، ومن خلال حضورها القوي في مؤسسة الرئاسة الأمريكية وفي الوزارات السيادية كالخارجية والدفاع، يكون لها دوراً بارزاً في قيادة السياسة الخارجية الأمريكية، من خلال تحديد سلوكياتها وأساليبها في تصريف الشؤون الخارجية، لتحقيق الأهداف والمصالح الوطنية الأمريكية، فكل رئيس من الرؤوساء الأمريكيين، الذين بلغ عددهم 45 رئيس حتى الآن، ينظر إلى العالم من خلال أعين أربع مدارس سياسية فكرية أمريكية، وهي المدرسة الهاملتونية، والمدرسة الجيفرسونية، والمدرسة الجاكسونية، والمدرسة الويلسونية، فكل مدرسة من هذه المدارس لها أفكارها ورؤيتها لكيفية تسيير السياسة الخارجية الأمريكية.
 
تتفق هذه المدرسة مع المدرسة الهاملتونية من ناحية ضرورة وجود سياسة خارجية نشطة وشاملة تهدف إلى نشر وترسيخ المبادئ الديمقراطية في كل أنحاء العالم، عوضاً عن تنمية المصالح الذاتية
فالمدرسة الهاملتونية، والتي تعرف أيضاً بالنفعية، أرسى فكرها السياسي ألكسندر هاملتون (1755-1804)، والذي كان أول وزير للخزانة الأمريكية بعد الاستقلال، في عهد الرئيس جورج واشنطن، وهو من الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية، ومن الذين قاموا بصياغة الدستور الأمريكي. تنادي هذه المدرسة بضرورة تبني الولايات المتحدة الأمريكية لسياسة واقعية في علاقاتها الدولية، فهي تؤمن بالقوة (القوة العسكرية القوة السياسية) لتنمية مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في الخارج، وترى أن المهمة الأولى للحكومة الأمريكية هي تشجيع ازدهار المشروع الأمريكي في الداخل والخارج، من خلال تشجيع الاندماج في الاقتصاد العالمي، وترى أن التحالف القوي بين الحكومة وأصحاب الأعمال التجارية الضخمة هو مفتاح الاستقرار الداخلي، والعمل المؤثر في الخارج.
 
في حين أن المدرسة الجيفرسونية، والتي تعرف أيضاً بالانعزالية، فتعود بأفكارها إلى الرئيس الأمريكي الثالث توماس جيفرسون (1801-1809)، الذي يعتبر من الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية، ومن الرواد الأساسيين في تطوير الحزب الجمهوري. تؤمن هذه المدرسة أيماناً عميقاً بالتفرد الأمريكي وبالإمكانيات الأمريكية، وتنادي بضرورة تبني الولايات المتحدة الأمريكية لسياسة خارجية انعزالية تقلل من الارتباطات والالتزامات والتدخلات الأمريكية في الشؤون العالمية لتخفيف الأعباء عليها، وترى أن مهمة السياسة الخارجية الأمريكية حماية الداخل الأمريكي، فهي لا تولي أهمية كبيرة لنشر الديمقراطية في الخارج، وإنما يجب التركيز على المناطق التي تمثل مصالح للولايات المتحدة الأمريكية.
 
أما المدرسة الثالثة، فهي المدرسة الجاكسونية، والتي تعرف أيضاً بالمدرسة المتشددة أو مدرسة الصقور، فتنسب أفكارها الأساسية إلى الرئيس الأمريكي السابع اندرو جاكسون (1829-1837)، والذي يعتبر من الأعضاء المؤسسين للحزب الديمقراطي. تؤمن هذه المدرسة بترابط السياستين الداخلية والخارجية، وبضرورة الاهتمام بهما على حد سواء من أجل تحقيق الرخاء للشعب الأمريكي، كما تؤمن باستخدام القوة العسكرية لتحقيق المصالح والأهداف الأمريكية في أي رقعة من العالم، فهي تنظر إلى العالم من باب المصالح الوطنية الضيقة، وتدعو إلى الفخر والاعتزاز بقوة الولايات المتحدة الأمريكية. تشكك هذه المدرسة في توجهات المدرسة الهاملتونية وصلاتها بدوائر المال والأعمال، وترتاب من ضعف المدرسة الجيفرسونية ودعوتها إلى الانعزال عن العالم.
 
في حين أن المدرسة الرابعة، وهي المدرسة الويلسونية، التي تعرف أيضاً بالمثالية، فتعود بأفكارها الأساسية إلى الرئيس الأمريكي الثامن والعشرون ودرو ويسلون (1913-1921). تؤمن هذه المدرسة بضرورة وجود سياسة خارجية أمريكية نشطة تسعى إلى نشر وترسيخ المبادئ الديمقراطية في العالم، والدفاع عن حقوق الإنسان، والتعاون مع المجتمع الدولي من خلال تفعيل دور المؤسسات الدولية، وترى أن على الولايات المتحدة الأمريكية التزام أخلاقي لنشر القيم الأمريكية في أنحاء العالم، وذلك عبر تدعيم أسلوب الإرساليات المثالية التي تبشر بعالم ديمقراطي ومجتمع دولي مسالم، وترى أن الدول كلها متساوية فيما بينها أمام القانون الدولي.
 
تتفق هذه المدرسة مع المدرسة الهاملتونية من ناحية ضرورة وجود سياسة خارجية نشطة وشاملة تهدف إلى نشر وترسيخ المبادئ الديمقراطية في كل أنحاء العالم، عوضاً عن تنمية المصالح الذاتية. هذا من الناحية النظرية، أما من ناحية التطبيق العملي، فكل رئيس من الرؤوساء الأمريكيين الخمسة والأربعين، يختلف عن غيره في طريقة ونسبة تبنيه لأفكار ومبادئ كل مدرسة من هذه المدارس الأربع، فالبعض يميل إلى تبني مبادئ وأفكار مدرسة بعينها، بينما يتجه البعض الآخر إلى محاولة الدمج بين أفكار ومبادئ مدرستين أو أكثر في سياسته الخارجية.
 
فالنهج السياسي لإدارة جورج دبليو بوش (2001-2009)، كان مزيجاً ما بين المدرسة الجاكسونية، التي تعبر عن أفكار وسياسات متشددة تقوم على استخدام القوة المفرطة وبجميع أشكالها لتحقيق المصالح والأهداف الأمريكية، حيث طبقت هذه الاستراتيجية بغزو أفغانستان عام 2001، بحجة محاربة "الإرهاب" وتنظيم القاعدة، وذلك بعد أحداث 11 أيلول 2001 التي ضربت الولايات المتحدة الأمريكية، والمدرسة الويلسونية، التي تعبر عن أفكار ومبادئ مبدئية تسعى إلى نشر الديمقراطية(على الطريقة الأمريكية)، وهذا ما تمثل بالغزو الأمريكي للعراق عام 2003، بحجة نشر الديمقراطية.
 
السياسة الخارجية الأمريكية غالباً ما تكون في حالة صراع وتعارض ما بين زوجين من المبادئ والأفكار المتناقضة، يمثّل الزوج الأول فكرة العزلة مقابل التدخل، بينما يمثًل الزوج الثاني فكرة المبدئية مقابل الواقعية المصلحية
في حين كان النهج السياسي لإدارة باراك أوباما (2009-2017)، يشير إلى محاولة الدمج ما بين أفكار ومبادئ المدرسة الجيفرسونية، التي تدعو إلى تقليل الارتباطات والالتزامات الأمريكية في الخارج، والتركيز على القضايا الداخلية، وبين أفكار المدرسة الويلسونية، التي تدعو إلى التعاون مع المجتمع الدولي لتحقيق الأمن والاستقرار، وترى أن أفضل تأثير يمكن أن تحدثه الولايات المتحدة الأمريكية في العالم يكون باستخدام سياسة التعاون مع المجتمع الدولي من خلال التركيز على بعض القضايا الدولية كمحاربة "الإرهاب"، ومواجهة أخطار وتحديات الاحتباس الحراري، فسياسته الخارجية كانت تميل إلى توجيه إمكانيات الولايات المتحدة لتوفير حياة أفضل للشعب الأمريكي مع السعي إلى نشر الديمقراطية ومبادئ التعاون الدولي، لذا كانت أولى مهام أوباما مع بداية فترته الرئاسية الأولى إنهاء حربي العراق وأفغانستان والتواصل مع العالم الإسلامي.
 
أما إدارة دونالد ترامب (2017)، ومنذ توليها السلطة، قام النهج السياسي لها على أسس المدرسة الجاكسونية، والتي تركز على جعل الولايات المتحدة الأمريكية قائدة للعالم، دون الاهتمام بالهيمنة الكاملة، من خلال رفع شعار "أمريكا أولاً"، وإعطاء الأولوية للمصالح وليس للقيم، لذلك فالسياسة الأمريكية في ظل إدارة ترامب تعتمد على استخدام موارد دول أخرى في تحقيق القيادة المنشودة، والابتعاد عن المواجهات المباشرة طويلة الأمد، التي قد تودي إلى خسائر بشرية، ومن هنا رأينا الضغوط الأمريكية على دول الخليج لدفع النقود مقابل الحماية الأمريكية، وكذلك الضغوط الأمريكية على "الناتو" لزيادة مساهمتها في ميزانيات الدفاع، وفرض الرسوم على الصين، والتفاهمات مع روسيا، وكذلك شاهدنا الانسحاب الأمريكي من العديد من الاتفاقيات الدولية، ومن ضمنها (النافتا)، واتفاق باريس للمناخ، والاتفاق النووي مع إيران، واليونيسكو، ومجلس حقوق الإنسان، فجميع ما سبق يؤكد على توجه إدارة ترامب التي تتبنى الجاكسونية، نحو القيادة وليس الهيمنة، فإدارته لا تؤمن بمبدأ التدخل المثالي ، فثروة أمريكا وقوتها لا يجب اهدارها من أجل نشر القيم العالمية التي تنادي بها الويلسونية، مع التأكيد على الاستعداد التام لاستخدام القوة لتحقيق المصالح والأهداف الأمريكية في أي رقعة من العالم، ومن هنا تأتي عملية إعادة الانتشار التي قامت بها القوات الأمريكية في شمال شرق سورية بعد الاتفاق مع تركيا، من خلال سحب القواعد الأمريكية من مناطق ريف حلب الشمالي، وتدعيم قواعدها في شرق سورية الغنية بالبترول.
 
هذه هي المدارس الأربع التي ينظر من خلالها الرؤوساء الأمريكيين إلى العالم، مع الإشارة هنا إلى أنّ هناك بعض الشواهد التاريخية التي تحدد نهج الرئيس الأمريكي، ومنها على سبيل المثال أنّ الرئيس الأمريكي الذي يتسلّم الرئاسة بعد أزمة كبيرة، كما حدث في فترة ما بعد الغزو الأمريكي لفيتنام، يميل إلى إتباع أفكار المدرسة الجيفرسونية، التي تدعو إلى الانعزال والانغلاق وتقليل الارتباطات والالتزامات الأمريكية في الخارج، ومن الشواهد أيضاً تعايش أفكار وتوجهات المدرسة الجيفرسونية مع أفكار وتوجهات المدرسة الويلسونية، وأن الجمهوريين المعتدلين يميلون لأن يكونوا هاملتيون، وكلما اتجه الجمهوريون نحو اليمين أصبحوا جاكسونيون، في حين أن وسط الحزب الديمقراطي يميل نحو الويلسونية، وكلما اتجه الديمقراطيون نحو اليسار أصبحوا جيفرسيون. فالسياسة الخارجية الأمريكية غالباً ما تكون في حالة صراع وتعارض ما بين زوجين من المبادئ والأفكار المتناقضة، يمثّل الزوج الأول فكرة العزلة مقابل التدخل، بينما يمثًل الزوج الثاني فكرة المبدئية مقابل الواقعية المصلحية.