غالب ينظر إلى الأعلى".. قراءات تعيد الروائي إلى واجهة السرد العربي
الغد-عزيزة علي
تتقاطع القراءات في كتاب "غالب ينظر إلى الأعلى"، وتتجاور الرؤى، لتقدّم صورة بانورامية لغالب هلسا الذي ظلّ ينظر إلى العالم من علٍ؛ بقلق، وبصيرة، وذاك الشغف العنيد بأن تظل الرواية قادرة على قول ما لا يُقال.
الكتاب الذي صدر عن دار العائدون للنشر والتوزيع، هو مجموعة من المقالات التي نُشرت سابقًا في مجلة الجامعة الأردنية، وقد جمعها وحرّرها الدكتور محمد شاهين، فيما كتب تقديم الكتاب الشاعر ومدير دار العائدون عمر شبانة.
هلسا، الذي ظلّ روائيًا مشاغبًا للسائد، وراصدًا متوترًا لأسئلة الحرية والوجود، يعود اليوم في كتاب جديد يجمع أصوات نقاد بارزين قرأوا تجربته بعمق ومحبة، واستعادوا ملامح مشروعه الروائي بوصفه واحدًا من أكثر المشاريع جرأة وخصوصية في السرد العربي.
الكتاب يضم ستة مقالات هي: "غالب هلسا ينظر إلى أعلى" للدكتور محمد شاهين. "ثلاث صور لعوالم غالب هلسا" للدكتور فيصل درّاج. "بلاغة المكان السردي وتوظيفه في رواية الخماسين" للباحث هيثم الحاج علي. "الذاكرة في رواية هلسا: البكاء على الأطلال" لجمال شحيّد. "فكر الرواية عند غالب هلسا" لوليد حمارنة. و"غالب هلسا روائيًا وناقدًا" للدكتور محمد شاهين.
وكتب الشاعر عمر شبانة تقديمًا بعنوان "محمد شاهين: غالب هلسا روائيًا وناقدًا"، يقول فيه إن الدكتور شاهين قدّم هذا الكتاب قبل رحيله بفترة قصيرة، بعد جهد كبير بذله في إعداده. فإلى جانب مقدمته ودراسته، قام بجمع وتحرير وتدقيق هذه المقالات التي كتبها نخبة من أبرز النقاد الأردنيين والعرب، وشكّلت ملفًا خاصًا نشره شاهين في المجلة الثقافية الصادرة عن الجامعة الأردنية حين كان يرأس تحريرها.
وبهذا تجمّع ملف نقدي غني وفريد حول واحد من أهم الروائيين الأردنيين والعرب، الروائي الرائي غالب هلسا، الذي لم يكن مجرّد سارد، بل صاحب رؤية واستشراف.
ويشير شبانة في تقديمه إلى أن الثقة التي منحها هلسا لتقنية المفارقة الساخرة جعلته يرى فيها أداة مناسبة لقراءة عوالم متباعدة تناولها في كتاباته، غير أن هذه التقنية -برأيه- قد لا تتّسع لقضية كبرى كقضية المواجهة مع إسرائيل، لما تقتضيه من أبعاد مختلفة عن تلك التي تعامل معها هلسا في عوالم أخرى، مثل عالم حكاية الزير سالم، وكتابات تيسير السبول، وعدد من القصص الواردة في الخماسين.
فقد نجحت قراءة هلسا لهذه العوالم لأنها تنطلق من إشكاليات سياسية واجتماعية غير مباشرة ومرنة، تسمح للمفارقة بالظهور وصياغة منظور جديد من عناصر قابلة للالتقاط والمراوغة.
ويشير شبانة إلى أن الدكتور شاهين توقّف عند مسألة الجماليات في روايات غالب هلسا، لافتًا إلى ما يأخذه بعض النقاد العرب على هلسا من عدم اهتمامه بالفصل بين شخصه وشخصياته الروائية، وإلغائه ما يُعرف في النقد التقليدي بـ المسافة الاستطيقية، التي ينبغي أن تفصل بين الراوي والمروي عنه. بل إن بعض النقاد يستنكرون أن يُطلق هلسا اسمه الشخصي على إحدى شخصياته في الرواية.
ولو أردنا – كما يقول شبانة – أن ننصر غالب هلسا، لقلنا إنه اختار تجاوز النقد الروائي المبكر الذي شُيّد على قواعد صارمة في بنية السرد؛ إذ أصبحت تلك المسافة الفاصلة وتعدّد وجهات النظر مع الزمن عناصر شكلانية، خصوصًا بعد التطور الكبير الذي شهدته تقنيات الرواية الحديثة وتخطّيها للتأطير التقليدي.
ويبدو أن هلسا، في هذا السياق، مال إلى تبنّي النقد الحداثي للرواية، الذي يُولي اللغة أهمية خاصة بوصفها عنصرًا أساسيًا في عملية الإبداع، بحيث لا تكون الشخصية الروائية مجرد اسم، بل تُصنع من لغتها وتُبنى بها.
وفي دراسته "ثلاث صور لعوالم غالب هلسا"، المضمّنة في الكتاب، يصف الناقد فيصل درّاج اللحظات الأخيرة في حياة هلسا داخل أحد مشافي دمشق، ثم يتناول عددًا من رواياته، بدءًا من "الضحك" و"الخماسين" وصولًا إلى "سلطانة" و"الروائيون". ويرى درّاج أن رواية "الخماسين" تُعَدّ من الروايات العربية القليلة التي نفذت إلى أعماق الإنسان المذعور، وفي الوقت ذاته اخترقت بنية الفضاء السلطوي المرعب الذي يحيط بهذا الإنسان ويعيد تشكيل خوفه.
كتب الدكتور محمد شاهين تقديمًا للكتاب بعنوان "غالب هلسا ينظر إلى أعلى": يرى شاهين أن هلسا أصبح يميل إلى تبني نظرية الرواية الحداثية التي تعطي اللغة موقعًا مركزيًا في عملية الإبداع؛ فالشخصية الروائية – في هذا التصور – ليست مجرد اسم، بل هي لغة تُنشئ الشخصية وتبنيها.
ويبيّن شاهين أن هلسا أدرك أن المسافة اللازمة لخلق لغة إبداعية يمكن أن تتجاوز الأطر الشكلانية التي تحدث عنها الرواد الأوائل، بل ويمكن استبدالها بذلك الفاصل الوهمي الذي يقيمه الروائي بين الراوي وظروفه القمعية، تلك الظروف التي قد تصل حدّ حرمان الراوي من القدرة على التعبير وإسكاته تمامًا.
ويطرح شاهين سؤالًا جوهريًا: كيف يتعامل الروائي أو الفنان عمومًا مع قوة تطارده وتقصيه وتشرده وتسجنه؟ فإما أن يستسلم، فيغيب التعبير الجمالي عن القمع، وإما أن يواجه هذا القمع كما واجهه الشاعر إزرا باوند عندما أُلقي القبض عليه وسُجن في بيزا، حيث كتب أجمل قصائد اللغة الإنجليزية. وفي "أناشيد بيزا" قال: "تبا للذين يوقعون الهزيمة بالغير/ معتقدين أن القوة وحدها هي الحق".
ويشير شاهين إلى أن الأمثلة الروائية كثيرة في إظهار قدرة الفن على تحييد سطوة المعتدي، تمهيدًا لإطلاق صوت الراوي عاليًا بالحقيقة التي يسعى القمع إلى وأدها منذ لحظاتها الأولى. وفي مثل هذه الحالات، تكون اللغة الخلّاقة هي سيدة الموقف.
ويضرب شاهين مثالين من النصوص التي شكّلت أثرًا واضحًا في رؤية هلسا، وهما: رواية "سداسية الأيام الستة: الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" لإميل حبيبي، ورواية "الإخوة كرامازوف" لدوستويفسكي، وهما من أقرب الكُتّاب إلى قلب غالب هلسا وأكثرهم تأثيرًا في تجربته.