عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    03-Apr-2025

بأية حال عدت يا عيد؟... سؤال يخترق الزمن ويستقر في جراح الأمة

 الدستور

وفاء داري كاتبة/ وباحثة من فلسطين
 
العيد بين شعر المتنبي والواقع الفلسطيني: «عيدٌ بأية حالٍ عُدتَ يا عيدُ؟ بِما مَضى أمْ بأمرٍ فيكَ تجديدُ؟»، هكذا تساءل المتنبي قبل ألف عام، والذي يرن صداه في أذهاننا كل عام مرتين، يكتسب هذا العام دلالات جديدة، أكثر عمقًا وأشدّ ألمًا، وهو يتردد في شوارع غزة المدمرة، بين أنقاض البيوت التي كانت بالأمس عامرة، وفي قلوب أمهات ثكالى فقدن فلذات أكبادهن. وكأنه يخاطب عيدنا اليوم. فالعيد، بوصفه مناسبةً دينيةً واجتماعية، لم يكن يومًا مجرد طقسٍ عابر، بل هو مرآةٌ تعكس أحوال الأمم. لكن كيف يُحتفى بالعيد حين يُعلَن الموتُ على شعبٍ بأكمله؟ كيف تُرفع التكبيراتُ وتُوزع الحلوى وتُلبس الثياب الجديدة، بينما تُحاصر الروحُ بأسئلة الوجود والعدم؟ كيف يمكن للعيد أن يحافظ على معانيه في زمن الموت والدمار، وكيف يمكن للمسلمين أن يمارسوا شعائر الفرح في ظل هذه المعاناة الإنسانية، (عيد في ظل المأساة). هذه التساؤلات التي تُلقي بظلها على الشعب الفلسطيني، الذي يُحيي عيده تحت ركام المنازل، وبين قبور الشهداء الذين حُرموا حتى من شاهدٍ يُخلّد أسماءهم. العيد رمز الفرح والبهجة، يأتي هذا العام محملاً بعبق الدموع ورائحة البارود. تشتت عوائله، وسلبته أبسط مقومات الحياة. كيف يمكن للعيد أن يحتفظ بمعناه في زمن الموت المعلن؟ كيف يمكن لتكبيرات العيد أن تعلو فوق صرخات الثكالى وأنين الجرحى؟ في فلسطين، العيد ليس مجرد مناسبة دينية، بل هو صراع مستمر بين الأمل واليأس، بين الحياة والموت. هو تحدٍّ للظروف القاسية، وإصرار على التمسك بالفرح رغم الألم. هو محاولة لترميم الروح الممزقة، وإحياء الأمل في غدٍ أفضل. العيد في فلسطين هو ذكريات طفولة تملؤها أصوات المراجيح وضحكات الأطفال، هو رائحة الكعك المنزلي الذي كانت تعده الجدات بحب، هو فرحة الثياب الجديدة التي كانت تمنح القلوب بهجة لا تضاهيها بهجة. لكن هذه الذكريات، رغم جمالها، تحمل في طياتها مرارة الواقع، واقع الاحتلال، والحروب، والحصار. في فلسطين، العيد هو صرخة في وجه الظلم، شعبًا يئن تحت وطأة المعاناة، لكنه يرفض الاستسلام. العيد في فلسطين هو إيمان راسخ بأن النصر قادم لا محالة، وأن الظلم لن يدوم، وأن فجر الحرية سيشرق يومًا ما. هو إيمان بأن تكبيرات العيد ستظل تعلو فوق كل الأصوات، وأن الأمل سيظل يضيء دروبنا مهما اشتدت الظلمات. ولا زالت الأذرع مفتوحة لمعانقة العيش بسلام على أرضها.
 
العيد في الموروث الثقافي... بين الفرض الديني والواقع المأسوي:
 
الإسلام جعل للعيدين (الفطر والأضحى) فلسفةً عميقةً؛ فهما مناسبتان لـ «تجديد العهد مع القيم الإنسانية» كالتضامن والمحبة، وفرصةٌ لـتذكير الإنسان بضعفه أمام القدرة الإلهية، خاصةً في الأضحى حيث تُقدَّم الأضحية رمزًا للتسليم. وفرحة عيد الفطر بعد شهر الصيام والقيام والتجليات الروحانية. لكن الفلسطيني اليوم يُقاد إلى سؤالٍ مرير: كيف يُفرَح بالعيد والشعب يُذبح تحت ذرائعَ تتناسل كالسرطان؟ هنا يتحول العيد من طقسٍ ديني إلى (فعل مقاومة)، حيث تُصبح التكبيراتُ هتافاتٍ ضد الظلم، والزياراتُ العائليةُ تأكيدًا على التماسك الاجتماعي رغم التشريد.  
 
فالفرح هنا ليس إنكارًا للمعاناة، بل هو «إصرارٌ على الحياة»، كما قال الشاعر محمود درويش: «نحن أحقُّ بالحياةِ إذا ما متْنا... نُقيمُ المواكبَ في جوفِ الليلِ». رغم عدم وجود بيت في فلسطين منذ أكثر من 75 عام؛ لم تمزق الألآم والتنكيل أهله؛ وكانت شاهدة على ذلك جدرانه، لم تخدش وجه أمله أيادي الطغيان؟ لم تُسرق الطفولة من أبنائه، هل هناك بيت خلا من معتقل؟ أسير! من شهيد! من جريح! من مبعد! من مهاجر! من نازح! من مهجر؟
 
ماذا عن غزةَ، حيث تُحاصر بالأطنان الحديدية والركام، يُعيد الأطفالُ اختراع الفرح: يلعبون بين الأنقاض بدمى مُصنعةٍ من بقايا الصواريخ، ويُزيّنون الخيامَ بأوراقٍ مُمزقةٍ من الكتب المدرسية. العيد هنا (مقاومةٌ بالذاكرة)؛ فالأمهات يُحاولن إعداد حلوى العيد من الدقيق المُتبرع به، بينما يُرددنَّ لأطفالهن حكاياتِ الأعياد الماضية، حين كانت الأسواقُ تزخرُ بالألوان، وكانت العائلاتُ تجتمع حول موائدَ عامرة.  لكن الذاكرةَ نفسها تُصبح جُرحًا نازفًا: فالكثيرون فقدوا أحباءهم في الأعياد السابقة، وصارت «تهنئة العيد» تعني لبعضهم زيارة المقابر الجماعية. ومع ذلك، فإن (الضحكة الفلسطينية)، رغم اختلاسها، تظلُّ إعلانًا أن الموتَ لم ينتصر بعد، كما كتبت الروائية سحر خليفة: «نحن نضحك لأننا نعرف أننا سنبكي».
 
التكبيراتُ بين السماء والأرض... سؤال الصمود والتهليلات في زمن الموت  
 
«الله أكبر»، تهزُّ هذه الكلماتُ الأجواءَ في صباح العيد، لكنها تُصطدم بالواقع الفلسطيني الذي يتساءل: أيُمكن أن يظلَّ الإيمانُ قويًا حين يُشاهد طِفلهُ يُدفن تحت الأنقاض؟ هذا السؤال يُعيدنا إلى الجدل الفلسفي القديم حول (الشرّ والعدل الإلهي).  لكن الفلسطيني اختصر الإجابة بـ(فعل الإيمان ذاته)؛ فمواصلةُ الصلاة وإقامةُ العيد تحت القصف هو انتصارٌ لروح الإنسان على آلة القتل. هنا يتحول العيد إلى «منظومة قيمٍ دينية وأخلاقية» تُجسّد قول علي بن أبي طالب: «لو كان الفقر رجلًا لقتلته»، لكن الفلسطيني يرفض أن يقتله الفقر؛ كما يرفض أن يقتله الاحتلال. اذًا؛ التهليلات في ظل الظروف الراهنة، تثبت كيف يمكن أن تكون مصدرًا للقوة والصمود.
 
العيد في الأدب الفلسطيني... سردية الألم والأمل:
 
الأدب الفلسطيني، من غسان كنفاني إلى إبراهيم نصر الله، حوَّل العيدَ إلى استعارةٍ للصراع بين الحياة والموت. في رواية «رجال في الشمس»، يموت الفلسطينيون اختناقًا في صهريج ماء، بينما العالم يحتفلُ بالعيد. أما في شعر فدوى طوقان، فالعيدُ يُصبح حنينًا إلى زمنٍ كان فيه الفرحُ ممكِنًا: «عيدُنا يمرُّ كالحلمِ... نبحث عنه في الركام».  هذه النصوص تُظهر أن العيدَ الفلسطينيَّ تحوّل إلى «وعي جمعي»، و»ثقافة الوعي»، فلم يعد مجرد يومٍ في التقويم؛ بل صار (رمزًا للهوية المتمسكة بالحياة)، حتى لو كانت الحياةُ تحت الأنقاض وبين الركام.
 
ختامًا: العيد قادم... بين اليأس والأفق المفتوح «بأية حالٍ عُدتَ يا عيد؟».. قد لا نجد إجابةً سهلةً، لكن الفلسطيني يُجيبُ بالدمِ الذي يُروي الأرض، وبالضحكةِ التي تُزهر بين الرصاص، وبالصلاةِ التي تُهزُّ أركانَ الكون. العيدُ هنا ليس انفصالًا عن الألم، بل هو (إعادة تعريفٍ للفرح)؛ فرحٌ لا ينسى الجراح، لكنه يرفض أن تستعبده. وكما قال محمود درويش: «سنحتفلُ لأننا أحياءٌ... ولأن أعداءنا يخافون من ذكرياتنا». عندما يهتف الفلسطيني الصغير والكبير منذ عقود» بالروح بالدم نفديكِ يا فلسطين»، ليست شعارات وأهازيج؛ بل قناعات وعقيدة، على هذه الأرض ما يستحق الحياة والشهادة، والصمود، والأمل، والفرح. العيد عبادة كما الصيام ونؤجر عليه، نعم نعترف، حتى لو كانت الهموم تتساقط من أرواحنا (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب). رغم أننا والله مثقلون بالهموم ...فالعيد بيت وسقف وعائلة واجتماع الأحبة، وورود منثورة في كلّ مكان.. العيد أخبار بوقف سفك الدماء، وإعادة الإعمار، وعودة المهجرين، والمغتربين، والمكلومين، والنازحين. العيد سلام، أمن وأمان.. العيد يعني أن يتخلى العالم عن أنانيته وتتسع محبته للجميع، وتعود البسمة للأطفال.  والشعب الفلسطيني لا يعرف الانكسار ولدنا أحرارا... كلنا صمود. فليعد العيدُ إذن، ليس بأحلام الماضي، بل بإرادةٍ تُجدد الحياةَ كلَّ يوم. وعلينا نشر الأمل، العيد هو فرصة للتجديد والتغيير، وأن الظلم مهما طال؛ لن يدوم. وكل عام ونحن إلى لله أقرب.. عيدكم مبارك وعساكم دونَ حروب وهموم من عواده.