عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    11-Nov-2025

القضاء والعرف العشائري" للباحث اللصاصمة.. إرث من الحكمة والنخوة

 الغد-عزيزة علي

 يأتي كتاب "القضاء والعرف العشائري"، للباحث عبد الكريم اللصاصمة، الصادر عن وزارة الثقافة، ضمن برنامج "فكر ومعرفة"، ليكشف عن ملامح هذا الإرث الاجتماعي المتجذر، الذي حفظ تماسك المجتمع عبر القرون، وأسهم في إرساء قيم النخوة والمروءة والصلح، وجعل من القضاء العشائري مدرسة في العدالة الإنسانية المستمدة من وجدان الناس وضميرهم الجمعي.
 
 
في التمهيد، يوضح اللصاصمة أن المجتمع ينشأ من الأسر الصغيرة التي تتوسع لتكوّن العائلة، ومن مجموع عدد من الأسر يتشكل الفخذ، وهو جزء من الحمولة التي تنتمي إلى العشيرة، ومن مجموع العشائر تتكون القبيلة. وهكذا تتبلور العشائرية في مفهومها الإيجابي كمؤسسة اجتماعية ترتكز على قرابة الدم في نواتها القريبة، وتتماسك بأواصر النسب في بنيتها البعيدة، مما يعزز اللحمة بين جميع مكوناتها.
ويشير المؤلف إلى أن العشائر تحرص على تنشئة أبنائها على الالتزام الأدبي والأخلاقي، واحترام الآخرين وعدم التعدي على حقوقهم وكرامتهم، بما يضمن للمجتمع التوازن والطمأنينة في ظل قوة الترابط بين أبنائه، إذ تعد العشيرة اللبنة الأساسية في البناء الاجتماعي العام.
ورغم هذا الالتزام الصارم، فإن بعض الأفراد قد يخرجون عن العادات والأعراف المستقرة، مما يستدعي ردع المخطئ وإنذار غيره بعواقب الإساءة قولا أو فعلا لأي شخص، قريبا كان أم غريبا، حفاظا على النظام الاجتماعي وهيبة العرف.
وللحد من التعدي على الآخرين، جاءت الأعراف العشائرية لتصون العلاقات بين الناس وتحمي الأنفس والأعراض والأموال، فغدت إحدى ركائز النظام الاجتماعي العشائري، يلتزم بها الجميع من دون تجاوز أو إخلال، لما يترتب على ذلك من آثار تمس مكانة الفرد داخل جماعته.
ومع مرور الزمن، وتبدل الأحوال، كما يشير اللصاصمة، تطورت الأعراف وتعددت سواديّها، وخضعت للتهذيب بما ينسجم مع متطلبات الواقع، فازدادت حكمة المجتمع العشائري والتزامه الأخلاقي، حتى غدت تلك الأعراف مصدرا للطمأنينة، إذ يشعر الجميع بالأمان، ومن يتعرض للأذى يجد سبيله إلى المقاضاة العشائرية لرد حقه وصون كرامته.
ويبين المؤلف أن العادات والتقاليد العشائرية هي امتداد لعصور ما قبل الإسلام، نشأت استجابة لحاجات المجتمع القبلي، ومع أن طرائق تطبيقها تختلف قليلا بين القبائل، فإن جوهرها واحد في عموم الأقطار العربية.
أما العرف العشائري فهو منظومة من القواعد والمفاهيم الاجتماعية التي يتفق عليها أبناء المجتمع لحماية مصالحهم وصون أموالهم وأعراضهم، وقد ترسخت هذه الأعراف في الوجدان الجمعي حتى أصبحت قيمة اجتماعية رفيعة، لا يتجاوزها أحد، بل يتمسك بها أفراد القبائل ويدافعون عنها بوصفها نبراسا يهدينا إلى الاستقرار والسكينة.
الأعراف العشائرية، وإن كانت مستقرة في سماتها العامة، إلا أنها ليست ثابتة في جميع جوانبها، إذ تخضع لبعض التبدلات التي تفرضها متغيرات الزمن وأساليب الحياة الحديثة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك مفهوم "الجلوة"، الذي كان يشمل في السابق عددا كبيرا من أقارب الجاني، فيما يعرف بـ"الخمسة"، حيث كانوا يجبرون على الانتقال إلى مناطق بعيدة تسمى "المجلى".
أما اليوم، فقد اقتصر تطبيقها على أسرة الجاني فقط، وفي نطاق لا يسبب مشقة كبيرة في السكن أو المعيشة، بما يتيح لهم متابعة حياتهم في التعليم والعمل، من دون أن يتحمل الأبرياء وزر الجريمة.
وقد أصبحت الأعراف العشائرية تقاليد موروثة تتناقلها الأجيال، لتبقى ركيزة في البناء الاجتماعي العشائري، وضمانة لتماسكه وصلابته، وحماية للعلاقات الوثيقة بين أبناء القبائل، الذين يسعون إلى توطيد هذه الروابط والمحافظة على استمراريتها.
وينظر المجتمع الأردني، بمختلف فئاته، إلى العادات والتقاليد العشائرية بما تنطوي عليه من أعراف قضائية، على أنها وسيلة لتحصين القيم الأخلاقية والاجتماعية، وترسيخ مبادئ إصلاح ذات البين، وإشاعة مكارم الأخلاق مثل المروءة، والنخوة، والشهامة، وإغاثة الملهوف، وحماية الجار، وإكرام الضيف، والصفح عند المقدرة.
أما القضاء العشائري، كما يوضح المؤلف، فهو عرف اجتماعي استقر في المجتمعات العشائرية، يقوم عليه قضاة من ذوي الخبرة اكتسبوا مكانتهم بالوراثة، لانتمائهم إلى بيوت اشتهرت بالحكمة والعدل وفض النزاعات قبل قيام الدولة الحديثة.
وفي الوقت الراهن، ومع سريان القانون المدني والإداري، ما يزال القضاء العشائري يؤدي دورا رديفا ومساندا في بعض القضايا الحساسة، كقضايا القتل والعِرض، لما يتمتع به من مرونة وعدالة توافقية تسهم في تعزيز حكم القانون.
فقد كان القضاء العشائري، قبل نشوء الدولة الحديثة، المرجع الأساس لحل النزاعات والخلافات بمختلف أنواعها، وتميز بطابعه الصلحي والإنساني، إذ يسعى إلى إزالة الأحقاد وتحقيق التسامح بين المتخاصمين، وإعادة الحقوق إلى أصحابها بالعدل والحكمة.
ويشير شيوخ القبائل إلى أن العشائر اليوم أصبحت مؤسسات اجتماعية راسخة تؤدي أدوارا مهمة داخل المجتمع، أبرزها تحقيق الأمن، ونشر العدالة، وترسيخ الاستقرار الاجتماعي عبر فض النزاعات وإصلاح ذات البين.
وقد أفرز المجتمع العشائري منظومة من الأعراف القضائية التي شكلت في بعض الحالات رادعا أشد من القوانين الوضعية، إذ لا تقتصر العقوبة على الجاني وحده كما في القضاء المدني، بل تمتد لتشمل عصبته حتى الجد الخامس، الأمر الذي يجعل المجتمع بأسره يتحمل مسؤولية ضبط أفراده وردع من قد يسيء، خشية أن يلحق الأذى بأقاربه.
وابتكر القضاء العشائري وسائل فعالة لحسم النزاعات، من أبرزها نظام الكفالة؛ حيث يلتزم كفيل الوفاء بإلزام الجاني وذويه بتنفيذ الحكم، فيما يتولى "كفيل الدفا" منع ذوي المجني عليه من الاعتداء على ذوي الجاني، بما يحقق التوازن ويمنع تفاقم الخلافات. وثمة من يرى أن القضاء العشائري قد وضع منهجا متكاملا للحد من الجريمة.
وخلص إلى أن القضاء العشائري يعد في جوهره وسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية، لا غاية بحد ذاته، وهو يستمد روحه من سماحة الشريعة الإسلامية، ويقوم على المرونة والتسوية، إذ يحرص القاضي -قبل إصدار الحكم، ولا سيما في القضايا الاعتيادية- على تشجيع الصلح بين الخصوم، اتقاء للضغائن وتعزيزا لروح التسامح والتآلف بين أبناء المجتمع.