عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    24-Jun-2022

ماذا للشاعرة تفاحة بطارسة في ضمير الكون؟

 الدستور-سعيد يعقوب

 
تواصل الشاعرة الأردنية تفاحة بطارسة إخلاصها لمشروعها الشعري الذي بدأته بعدد من الدواوين الشعرية السابقة لتضيف إليه حديثا ديوانا بعنوان « لي في ضمير الكون « وقد صدر عن دار يافا للنشر والتوزيع بعمان، بدعم من وزارة الثقافة الأردنية، يقع الديوان في مئتين وثماني صفحات، ويشتمل على سبع وثلاثين قصيدة، من نمط شعر التفعيلة، وأول ما تقع عين القارئ على عنوان ديوان شاعرتنا المبدعة تفاحة بطارسه، « لي في ضمير الكون» يتبادر إلى ذهنه مباشرة سؤال يقول : وماذا للشاعرة في ضمير الكون، وما الذي وضعته في هذا الضمير، والحقيقة أن الإجابة كامنة، في ثنايا القصائد، وفي تلافيف الكلام، ودهاليز التراكيب والجمل، وتتراءى وراء عناوين النصوص، وفي تضاعيف هذه النفثات الشعرية العذبة، والبوح الشجي الشفيف، لحروفها المموسقة، ولكن دعونا قبل أن نجتهد في الإجابة على هذه التساؤلات، نتبين ماذا قصدت الشاعرة بضمير الكون، إن الضمير هو الشيء المستتر المخفي والضمير هو الجوهر الأصيل الذي لا يفنى ولا يزول، أي ما هو ضد العرض الفاني الزائل، وضمير الكون هو الزمن القادم الخالد، هو أعمق أعمق الوجود، وأقدس ما فيه، إذا هو مكان أمين محصَّن، وأهل لأن نضع أماناتنا عنده، ونأتمنه عليها، فهي محفوظه ومصونه، ولن تضيع أبدا، كما أنني أرى أن هذا الضمير، ضمير الكون، الشعر لما فيه من صفة الخلود، وانطوائه على سمة البقاء، وكأني بالشاعرة قد وضعت في الشعر، أسرارها وخواطرها، عبر هذه النصوص، والآن لنجيب عن أسئلتنا السابقة، ماذا للشاعرة المبدعة تفاحة بطارسة في ضمير الكون؟ وما الذي أودعته هناك؟ الحقيقة تخبرنا بها قصيدة حملت هذا العنوان، ثم حملته المجموعة الشعرية كلها، فهي القصيدة المحورية في الديوان، بل إن الديوان كله، يشكل قصيدة واحدة، فهو يحفل بوحدة موضوعية وشعورية، تنتظم جميع القصائد في الديوان، هذه القصائد التي تناسلت وتفرعت، وتوالدت من هذه القصيدة المركزية أو المحورية، «لي في ضمير الكون».
 
فهذه القصيدة، كحال بقية القصائد، تختزل الحالة النفسية للشاعرة، بكل محمولاتها الانفعالية، إن الديوان كله يمثل سيرة ذاتية للشاعرة، قالت كل شيء دون أن تقول شيئا، أو لم تقل شيئا حين قالت كل شيء، في الوقت نفسه، تمتاحها من التداعي الحر عبر تيار اللاوعي، فهي تبرز القلق الداخلي والخيبات الكبيرة، والجراح العميقة والنكسات والخسارات والتشظي، وهي وإن كانت تعبر عن تجربتها الذاتية، فهي تعكس تجارب الإنسان المعاصر، الذي يعيش تحت وطأة القهر والظلم والمعاناة والاستلاب، والخسارات المتعددة الجوانب، والمتنوعة المستويات، ليصل به قطار ذلك كله إلى المحطة الأخيرة، وقد غشاه التعب وأنهكه المشوار الطويل في هذه الحياة، وأثقله اليأس وذاق طعم المرارة، بفقدان الأحبة، وضياع الآمال على الصعيد الشخصي، أو الوطني أو القومي أو الإنساني، ليقذف في النهاية في هوَّة الغياب أو التراب أو العدم أو الفناء أو سمّه ما شئت، إنه يتضمن التعبير عن الوجدان الجمعي لنا جميعا، في ظل تغول المادة وبروز النزعة الفردية، وغياب النقاء والبعد عن القيم السامية، والمثل الرفيعة، والآن لنقم بجولة سريعة في قراءة بعض عناوين نصوص هذه المجموعة لنؤكد ما ذهبنا إليه: إلى متى /آخر النفق / غربة / ليالي الغياب/ هروب /بلسم للسهاد /الرحلة /شرفتي /لحظة لقاء /موت الشاعر / في انتظارك / يا ليتني / حكاية السنديانة /أيلول /الوداع /شواطئ الوداع، إننا بالنظر إلى عناوين النصوص وهي عتباتها أو مفاتيحها، نرى بوضوح قصة حياة الشاعرة، مدونة بكل أمانة وصدق، في حكاية السنديانة/الشاعرة/ أو الرحلة مسيرة الحياة المحفوفة بالعذاب والمشاق / التي لا ترى آخرا لنفقها الطويل المظلم، في غربة روحية، تحاول أن تهرب من ذكريات ليالي الغياب، وهي تطيل الجلوس في شرفتها وحيدة، تلك الشرفة المطلة على الماضي، التي تبحث فيها عن بلسم للسهاد، متمنية للحظة لقاء، فهي تعيش مرارة الانتظار، ليختتم كل ذلك بموت الشاعر، بعد أن يحل أيلول بأوراقه الصفر، لتقول وداعا، وترسو سفينتها على شواطئ الوداع، وماذا في هذه الشواطئ ؟!! غير الألم والحسرة والحزن، والدموع والانكسار والتشظي، هذه إذا قصة السنديانة /الشاعرة بكل ما تحمله من ألم ومرارة، وانكسار وعذاب، هي قصة خالدة للصبر والوفاء والألم والأمل، فلا يليق بها الضياع كغيرها من القصص، وما أجدر أن توضع في ضمير الكون /الزمن /الشعر/ لتظل خالدة إلى الأبد .
 
لاحظوا وتأملوا معي ما تقول شاعرتنا في قصيدة «لي في ضمير الكون «، وهي القصيدة المحورية في الديوان، التي اختارتها الشاعرة لتكون وسما له، وهي تختزل فكرة الديوان كله، وهي بحق قطعة فريدة، أعتبرها من الأدب الإنساني الخالد، وما أحراها بالترجمة إلى الآداب العالمية، واللغات الحية، ذلك أنها تنطوي على البعد الإنساني العميق، الذي يتسرب من أعماق الروح، ويسيل من ثقوب القلب، وينزف من شقوق الوجدان، إنها أشبه ما تكون بنشيد البجعة النازفة، وتغريد البلبل الحزين، وشدو الوتر المتواجد، ومن غرائب هذه القصيدة أنها تقرأ من نهايتها إلى بدايتها، كما تقرأ من بدايتها لنهايتها، دون ان يعتري معانيها خلل، أو يعتور تراكيبها تنافر، وقد وضعت في ضمير الكون /الزمن /الشعر /ما تريده قصيدة عاشق تحدو بها الركبان، وتنشدها السماء، بعد الصعود الطويل إلى أبراج اللقاء، هذا اللقاء هو عندها الرجاء الذي تعيش على أمل تحققه، وهو ما يبقى الكون عندها دونه بلا معنى، ولا قيمة، إنه الأمل الذي بفقده تنعدم السكينة، وتلف روح الشاعرة الحيرة، على وسادة وحيدة، تطوي عليها سواد الليل، وتلتحف ببرد الشقاء.
 
وخلاصة القول وجماع الحديث : إن هذا الديوان الرائع بكل ما تحمله الكلمة من معنى، من بين الدواوين القليلة التي تترك أثرا قويا في نفوس قارئيها، ويشكل نافذة تطل على حياة الشاعرة، يرى من خلالها القارئ، تلك التفاصيل الصغيرة، التي تكشف عن معاناتها وحزنها، وفداحة الفقد ومرارة الذكريات، وفاجعة النهاية وعمق الجراح، عبر نصوص تتسم باللفظ الرشيق، والصورة الجميلة المبتكرة، والمعنى العميق، والموسيقى الخلابة والإحساس المرهف الشفيف، وما الشعر إلا هذا كله، نصوص رفيعة المستوى، تبرز فيها النزعة الإنسانية التي تترجم هواجس الإنسان المعاصر، نصوص تتميز بالعمق الشديد، والبساطة المتناهية، وليس الجمع بينهما بالأمر السهل، وإنما هي من سمات النفس الشاعرة، والموهبة الخلاقة، والعبقرية الفذة.