«العمل السيادي»: كيف يمكن للأردن أن يُنهي البطالة دون خلق وظيفة واحدة؟*أ. د. هاني الضمور
الدستور
في وقتٍ تتراكم فيه الأرقام المقلقة على طاولة الحكومات، ويقف الشباب الأردني على عتبة البطالة بانتظار باب لم يُفتح منذ سنوات، بات من الضروري أن نغيّر زاوية الرؤية، لا فقط الأجوبة. الأردن لا يواجه أزمة وظائف، بل أزمة تصوّر لماهية العمل نفسه. فهل يعقل أن تكون عقول الآلاف معلّقة في الفراغ، فقط لأن النموذج الاقتصادي لم يعُد يراها ضمن خارطة الإنتاج؟ وهل يُعقل أن يُقاس التقدم بعدد التعيينات بدلًا من حجم القيمة المُضافة التي ينتجها الأفراد؟
لم يعد من المنطقي الاستمرار في نسخ ذات السياسات التي تفترض أن خلق الوظائف هو الحل الوحيد، بينما العالم تجاوز هذه القناعة باتجاه نماذج عمل أكثر مرونة وتنوعًا. لكن التحدي الأردني ليس فقط في تبني نماذج جديدة، بل في اختراع نموذج خاص به، يستجيب لتركيبته السكانية، وقدراته المحدودة، وطموح شبابه العالي. من هنا تبرز الحاجة إلى تبنّي مفهوم جديد: «العمل السيادي»، كنموذج إنتاجي بديل للوظيفة، يعتمد على تشغيل الإنسان بصفته وحدة إنتاج مستقلة، لا مجرّد رقم على قوائم الانتظار.
«العمل السيادي» لا يعني أن يعمل المواطن لحسابه الخاص وحسب، بل أن يُدمج بشكل منظم، ومرن، ومُقنن في سلسلة القيمة الوطنية، عبر مهمات قصيرة، موجهة، ومتصلة بحاجات الدولة والمجتمع، بدلًا من انتظار وظيفة دائمة في نظام متضخم. بهذا النموذج، يمكن للشاب أن يترجم وثائق لوزارة، أو ينتج محتوى رقميًا لهيئة حكومية، أو يصمم بيانات لمؤسسة عامة، دون أن يكون موظفًا فيها. القيمة هنا تُقاس بمقدار العمل المنجز، لا بمدة الجلوس خلف مكتب.
لكن لا يمكن لنموذج كهذا أن يعمل بدون بنية استراتيجية تقوده، من خلال بناء ما يمكن تسميته «بنك وطني للمهارات»، مؤسسة سيادية غير ربحية، تجمع المهارات الفردية وتصنفها، وتربطها تلقائيًا بالمهام والمشاريع الصغيرة المطلوبة في القطاعين العام والخاص. الأمر لا يقتصر على تكنولوجيا المعلومات أو المهن التقنية فحسب، بل يمتد إلى الحرف، والخدمات، والإبداع المحلي، وكل ما يمكن ترجمته إلى قيمة اقتصادية فعلية، سواء داخل الحدود أو خارجها.
التحول المفاهيمي الأكبر يتمثل في أن الدولة لم تعد فقط مسؤولة عن التشغيل، بل أيضًا عن تنظيم سوق الوقت، لا سوق العمل فقط. فبدلًا من تصدير الكفاءات جسديًا، كما جرى لعقود، بإمكان الأردن أن يصدر «الوقت المهني» للشباب عبر منصات حرة تُدار على مستوى وطني، ما يضمن دخولًا منتظمة، ويقلل من نزيف العقول، ويعزز من حضور الدولة كوسيط تنموي حديث.
إن مراكز الشباب التي تعاني من الركود يمكن أن تتحول إلى محطات إنتاج رقمية، تحتضن أدوات حديثة مثل الطباعة ثلاثية الأبعاد، والمونتاج الرقمي، وتصميم المحتوى، بإدارة شباب المناطق أنفسهم. وهكذا يتحول المركز من نادٍ بلا جمهور إلى مصنع صغير للإبداع المحلي، يشارك في سلسلة الإنتاج الوطنية.
أهمية هذا الطرح لا تنبع فقط من حداثته، بل من واقعيته. فالحكومة ليست مضطرة لتحمل عبء الرواتب، ولا القطاع الخاص سيُجبر على التوظيف غير المجدي. بل يُعاد تشكيل منظومة التشغيل بطريقة تشاركية، تحوّل كل فرد إلى أصل منتج، دون أن يكون عبئًا على الإنفاق العام.
إن ما نطرحه هنا ليس برنامجًا تنمويًا إضافيًا، بل إعادة اختراع لاقتصاد التشغيل الأردني. انتقال من مفهوم التوظيف إلى التمكين، من البنية الجامدة إلى المرونة السيادية، ومن الفجوة بين التعليم والعمل إلى التكامل بين المهارة والطلب الفعلي.
ما يحتاجه الأردن اليوم هو شجاعة ومؤسسية لكسر القوالب القديمة، والرهان على ذكاء أفراده بدلًا من محدودية موارده. فالمعركة مع البطالة لن تُحسم عبر التعيينات، بل عبر تحرير الإنسان الأردني من انتظار الوظيفة، ومنحه مفتاحًا لإنتاج مستقبله من حيث هو، وبما يمتلك، وبما يُمكن أن يصبح عليه.
إن لحظة التحوّل قد حانت، وإن تأخرنا في تبنيها، فسنخسر جيلًا ليس لغياب الفرص، بل لغياب الرؤية.