الغد
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
جون فيفر - (فورين بوليسي إن فوكَس) 2/7/2025
كانت سلسلة من عمليات اقتحام المنازل تحدث في حيّك مؤخرًا. ثمة بلطجية مسلحون مرتبطون بعصابة إجرامية يكسرون أبواب المنازل ويقتحمونها ويأخذون ما يستطيعون. والشرطة لا تصل إلا بعد وقوع الاعتداءات التي أسفرت عن إصابات -بل وحتى وفيات. وبسبب ضعف الموارد وتشتت الجهود، لم تتمكن الشرطة من ردع اللصوص.
يضع شخص ما من جيرانك لافتة على باب منزله تقول: "هذا المنزل مُسلح وخطير". وفي الليلة التالية، يقتحم البلطجية المنازل على كلا جانبي ذلك المنزل، من دون حتى تكلف عناء اختبار ما إذا كان صاحب المنزل الذي في الوسط يمتلك سلاحًا -أو حتى يعرف كيف يستخدمه. إنهم يتركونه لشأنه فحسب.
سؤال لك: هل تشتري سلاحا؟
ربما تكون من بين الذين لا يؤمنون بامتلاك الأسلحة. وإذن، هل تفكر في وضع لافتة مماثلة على باب منزلك، حتى لو كانت أخطر أداة تملكها في منزلك هي مقص أظافر؟ يبدو الدليل واضحا: حتى مجرد التهديد بالرد بالمثل سيكون كافيا لردع المهاجمين المحتملين. إنها حياتك وحياة عائلتك هي التي على المحك.
هذه هي المعضلة التي تواجهها العديد من الدول حول العالم، مع فارق أن السلاح في هذه الحالة هو سلاح نووي. كان ما حدث هو أن الدول التي لا تمتلك أسلحة نووية -مثل ليبيا ويوغوسلافيا- تعرّضت لهجمات أدّت في نهاية المطاف إلى تغيير أنظمتها. أما الدول التي تمتلك حتى عددًا قليلاً من الرؤوس النووية -مثل كوريا الشمالية أو الصين- فقد نجحت في ردع الدول التي تنطوي على نوايا عدائية.
في الآونة الأخيرة، تعرضت إيران، الدولة التي علقت لافتة تحذير على نافذتها من دون أن تلتزم تمامًا باقتناء أداة الردع القصوى، للقصف من إسرائيل والولايات المتحدة. ويتعلق توقف الصراع حاليًا على اتفاق هش لوقف إطلاق النار. والآن، تتخيل إدارة ترامب أنها دمّرت البرنامج النووي الإيراني. وتظن أيضًا أنها تستطيع ممارسة المزيد من الضغط على إيران للتخلي عن برنامجها للتسلح النووي وتسليمه على طاولة المفاوضات.
لكن الاستنتاج الواضح بالنسبة لإيران بعد هذه الهجمات هو أن السعي شبه السري للحصول على أسلحة نووية هو مسعى خطير، لكنّ عدم امتلاكها هو بالتأكيد أكثر خطورة. إذا كانت القوى النووية لا تعاني من حملات قصف مدمّرة، فإن الدول غير الآمنة تخلص إلى أنه من الأفضل لها أن تحصل على قنبلة في أسرع وقت ممكن.
وليس هذا التصور مقتصرًا على إيران. ثمة دول أخرى تتوصل إلى استنتاجات مماثلة بشأن كيفية البقاء في بيئة دولية تنهار فيها منظومة الأمن الجماعي -المعادل العالمي للشرطة- بالسرعة التي ينهد بها سياج في إعصار.
المجمع النووي الإيراني
يمكن استخدام الأسلحة لأغراض متعددة -الصيد، إصابة أهداف فخارية، أو حتى ارتكاب مجازر بحق أطفال في مدرسة.
وبالمثل، يمكن للمجمعات النووية أن تخدم أغراضًا مختلفة للغاية. لطالما زعمت إيران أن منشآتها النووية مخصّصة لإنتاج الطاقة والنظائر الطبية وما إلى ذلك. ولكن لا حاجة بدولة إلى تخصيب اليورانيوم الذي لديها بنسبة 60 في المائة -كما قيل أن إيران فعلت- لتحقيق مثل هذه الأهداف السلمية. تتطلب طاقة المفاعلات النووية تخصيبًا بنسبة 3-5 في المائة، في حين أن النسبة اللازمة للأسلحة النووية هي 90 في المائة.
كانت إدارة أوباما قد تفاوضت، بمشاركة عدد من الشركاء الدوليين، على اتفاق نووي مع إيران يحد من مستوى التخصيب عند 20 في المائة، وشرعت في تقليص مخزون إيران من اليورانيوم إلى نسبة 3.5 في المائة. لكن إدارة ترامب في فترته الأولى قامت بسحب الولايات المتحدة من الاتفاق. ولم يكن من المفاجئ أن يبدأ مستوى تخصيب اليورانيوم الإيراني في الزحف صعودا إلى أعلى مجددًا.
تحتفظ إيران بمنشأتين تحت الأرض للتخصيب النووي في نطنز وفوردو. وكانت هاتان المنشأتان من بين أهداف القنابل الخارقة للتحصينات التي أطلقتها الولايات المتحدة في الهجوم الأخير. وربما يتوقع المرء أن القنابل الأربع عشرة التي ألقتها أميركا على هذه الأهداف أعادت إيران إلى "العصر الحجري ما قبل النووي". وهذا بالتحديد ما تدّعيه إدارة ترامب.
لكن دونالد ترامب معروف بالمسارعة إلى إعلان النصر، حتى في ذروة الهزيمة الواضحة (هل تتذكرون "كوفيد"، وأفغانستان، وانتخابات العام 2020؟). ووفقًا لمصدر لم يُذكر اسمه في "وكالة استخبارات الدفاع"، فإن الهجوم الأميركي الأخير أخّر برنامج إيران النووي "ربما لبضعة أشهر، لا أكثر". وقد وصفت إدارة ترامب هذا التقييم بأنه تسريب من "شخص مجهول ومنخفض المستوى وفاشل في مجتمع الاستخبارات".
لكن مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، كرّر ما جاء في تقرير "وكالة استخبارات الدفاع"، وقال: "القدرات التي يمتلكونها ما تزال قائمة. يمكنهم، كما تعلمون، خلال بضعة أشهر، حسب تقديري، أو ربما حتى أقل من ذلك تشغيل عدد من سلاسل الطرد المركزي وإنتاج اليورانيوم المخصّب". وحتى المسؤولون الإيرانيون، الذين تم التقاط محادثات خاصة لهم بشأن الهجوم، أبدوا دهشتهم من أن الأضرار لم تكن جسيمة بالقدر الذي كانوا يتوقعونه.
حتى لو تم تدمير القدرة على تخصيب اليورانيوم، فإن الهجمات الأميركية والإسرائيلية لا تستطيع استئصال المعرفة بهذه العمليات من عقول العلماء الإيرانيين -ولا الرغبة في امتلاك السلاح النووي من وجدان الشعب الإيراني بأكمله. ووفقًا لاستطلاع نُشر في حزيران (يونيو) من العام الماضي، أيد نحو 70 في المائة من الإيرانيين المستجيبين توجه بلادهم نحو التسلح النووي -بعد نحو عقدين من معارضة الرأي العام في إيران لتسليح البرنامج.
وهذه مذكرة إلى كلٍّ من الولايات المتحدة وإسرائيل: إنها ليست القيادة السياسية الإيرانية فقط هي التي تريد أسلحة نووية. بعبارات أخرى، لن يحلّ تغيير النظام هذه المعضلة النووية. المجمع النووي الإيراني.
مفاوضات مستقبلية؟
بالنظر إلى قيام ترامب بإلغاء الاتفاق النووي الإيراني في العام 2017، لا يبدو أن الدبلوماسية توجد على رأس الأولويات في أجندة إدارته. لكنها ليست الدبلوماسية في حد ذاتها هي التي رفضها ترامب، كان ما رفضه فقط هو الدبلوماسية المرتبطة بإدارة أوباما.
حتى وقت متأخر هو مساء الجمعة الذي سبق الهجوم الأميركي، حتى بينما كانت إسرائيل تواصل جولات قصفها الجوي، كانت إدارة ترامب تجري محادثات سرية مع إيران. ووفقًا لشبكة (سي. إن. إن) فإنه:
"من بين الشروط التي كانت تتم مناقشتها، والتي لم يتم الكشف عنها سابقًا، استثمار يُقدَّر بما بين 20 و30 مليار دولار في برنامج نووي إيراني جديد غير قائم على التخصيب، يُستخدم لأغراض الطاقة المدنية، وفقًا لمسؤولي إدارة ترامب ومصادر مطلعة على الاقتراح. وأكد أحد المسؤولين أن الأموال لن تأتي مباشرة من الولايات المتحدة التي تفضّل أن يتحمّل شركاؤها العرب فاتورة التكاليف. وكان موضوع الاستثمار في منشآت الطاقة النووية الإيرانية قد نوقش في جولات سابقة من المحادثات النووية خلال الأشهر الأخيرة".
يبدو هذا الاقتراح كثير الشبه بـ"الإطار المتفق عليه" الذي سعت إدارة كلينتون إلى تحقيقه مع بيونغ يانغ، حيث تتحمل كوريا الجنوبية معظم التكلفة لبناء مفاعلات يمكنها تزويد كوريا الشمالية بالطاقة المدنية. لكن تلك المفاعلات لم تُبْنَ أبدًا، وانتهى الأمر بكوريا الشمالية إلى قدُمًا وتجميع ترسانتها الصغيرة الخاصة من الأسلحة النووية.
بعد الضربة، صرّحت إيران بأنها قد تفكر في العودة إلى طاولة المفاوضات في لحظة ما لاحقًا، بعد أن تحصل على ضمانات بعدم التعرض لهجمات في المستقبل. وفي ظل غياب الثقة بين الأطراف المختلفة، سيكون من الصعب تخيل أن تتخلى إيران نهائيًا عن الخيار النووي، أو أن تمتنع إسرائيل نهائيًا عن مهاجمة إيران، حتى لو قدّم الطرفان التزامات خطابية بهذا الخصوص من أجل استئناف المفاوضات.
ترامب الانتهازي
ثمة الكثير من التكهنات الفضفاضة التي تصف دونالد ترامب بأنه صاحب نزعة انعزالية، ومناهض للعسكرة، أو مؤمن بمناطق النفوذ. لكن الهجوم الأميركي على إيران ينبغي أن يُسقِط مثل هذا الهراء.
إن دونالد ترامب هو انتهازي سياسي. وهو يتبنّى مواقف -مناهضة للإجهاض، داعمة للعملات المشفرة- ليس بناءً على مبادئ، وإنما على أساس مدى الدعم الذي تقدمه هذه المواقف لمصالحه السياسية (والاقتصادية).
في السياسة الخارجية، رفع ترامب الانتهازية إلى مرتبة العقيدة الجيوسياسية. وقد تحدث عن الابتعاد عن الصراعات العسكرية في الشرق الأوسط، ولكن عندما طرحت الفرصة نفسها لضرب أهداف إيرانية من دون مخاطر تُذكر (لأن إسرائيل كانت قد أمّنت المجال الجوي مسبقا)، لم يتردد في الهجوم. وندّد بالفساد في أوكرانيا ووصف الرئيس فولوديمير زيلينسكي بأنه "ديكتاتور"، ولكن بمجرد أن سنحت الفرصة لتوقيع اتفاق للتعدين مع الحكومة في كييف، قام باغتنامها.
ليس لدى ترامب أي مشكلة في التفاوض مع الأصوليين الدينيين. وهو يتفاهم جيدًا مع المستبدين السنّة في الشرق الأوسط، وربما يجد صعوبة في شرح الفرق الديني بين السنّة في أي دولة سنية والشيعة في إيران. وإذا سنحت له الفرصة لعقد صفقة مع إيران، يغلب أنه سيغتنمها –بشكل خاص لأنه سيتمكن حينها من تقديم نفسه على أنه الرجل الذي "قضى حقًا" على التهديد النووي الإيراني (خذ هذه، يا أوباما!).
وفي الوقت نفسه، يُواصل ترامب تعزيز احتمال أن تستثمر الدول حول العالم في برامجها الخاصة للأسلحة النووية.
داخليًا في الوطن، وعلى الرغم من بعض التصريحات الخطابية عن عدم الحاجة إلى أسلحة نووية جديدة، يضيف ترامب ما يقرب من 13 مليار دولار إلى ميزانية الأسلحة النووية. وسوف تؤدي خطته لـ"القبة الذهبية" الدفاعية فقط إلى تشجيع القوى النووية الأخرى على زيادة إنفاقها لتجاوز هذه الدفاعات المعززة. بعد كل شيء، كانت هذه المزايدة الخطيرة، هي الدافع وراء موت "معاهدة الحد من الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية" العزيزة.
أحدث تردد ترامب وإحجامه عن تقديم ضمانات للحلفاء بأن الولايات المتحدة ستدافع عنهم في حال تعرّضهم لهجوم فجوات هائلة في "المظلة النووية" التي كانت تغطي معظم أوروبا وآسيا. وقد شرع السياسيون الأوروبيون في التحدث عن تعزيز قدراتهم النووية الخاصة -مع وضع الترسانة الفرنسية في المركز- بينما بدأ المحافظون في كوريا الجنوبية أيضا بالتحدث عن إنشاء ردعهم النووي الخاص.
وماذا عن بقية العالم؟ بدأ البرلمان الإيراني في صياغة مشروع قرار لسحب بلدهم من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. ولم تخرج من هذه المعاهدة سوى دولة أخرى واحدة -كوريا الشمالية- وهناك فقط عدد قليل من الدول ليست أطرافًا فيها (إسرائيل، الهند، باكستان، جنوب السودان). وإذا انسحبت إيران من المعاهدة، فإننا قد نشهد موجة من الانسحابات، ربما تبدأ بالسعودية وتركيا اللتين سبق أن أعربتا عن اهتمامهما بالخيار النووي.
لا شيء يعبّر عن نوايا ترامب أكثر من أفعاله. وكان قد تبادل "رسائل الحب" مع كيم جونغ أون (أسلحة نووية). وهو ويُظهر إعجابه الشديد بفلاديمير بوتين (أسلحة نووية)، وعبّر عن مزيد من الاحترام للصين (أسلحة نووية) أكثر من تايوان (من دون أسلحة نووية). وعلى الجانب الآخر من السياج النووي، قام بقصف إيران، وهدّد فنزويلا وكوبا، وتحدث عن احتمال الاستيلاء على غرينلاند وكندا.
لستُ من دعاة التسلّح النووي. لكنني لو كنت كنديًا، ربما كنتُ لأبدأ بالتفكير بأن سمعة الطيبة واللطف وحدها لا تكفي ولا تنفع في "عالم ترامب". لكن بضعة صواريخ نووية عابرة للقارات سوف ترسل، على الأرجح، رسالة سيكون هذا البيت الأبيض أكثر استعدادًا لفهمها جيدًا.
*جون فيفر (John Feffer) هو كاتب ومحلل سياسي أميركي، يشغل منصب مدير برنامج "السياسة الخارجية تحت المجهر" Foreign Policy in Focus في "معهد الدراسات السياسية". يُعرف بتحليلاته المعمّقة للسياسة الخارجية الأميركية، خصوصًا في ما يتعلق بقضايا نزع السلاح، والتهديد النووي، وصعود اليمين المتطرف عالميًا. ألّف عدة كتب من أبرزها "اليمين عبر العالم: الشبكة العالمية لليمين المتطرف ورد اليسار" Right Across the World: The Global Networking of the Far-Right and the Left Response. تُنشر مقالاته بانتظام في منصات مثل "ذا نيشن"، و"توم ديسباتش"، و"ذا أميركان بروسبكت".
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Iran and the Nuclear Order