عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    04-Jul-2020

صين الحرية تفضح صين الاستبداد - مالك التريكي

 

القدس العربي - عندما تتسلّط أنظمة القهر والعسف والخوف، لا تجد الشعوب مناصا من التظاهر بالقبول والرضا. فيكون الموقف العام هو التسليم بالأمر الواقع إيثارا السلامة. وعادة ما تتخلل الموقف العام الصامت مواقف صائتة أو صاخبة تتمثل في التغنّي بمناقب الحاكم والتهليل لكل ما يصدر عنه من قول أو عمل. وليس الخوف بدافع لهذه المواقف، وإنما الطمع. إذ يكفي في حالة الخوف «السير لصق الحيطان»، وعدم الخوض في السياسة، والانشغال بشؤون العائلة والعكوف على كرة القدم أخبارا وتعليقات ومباريات وإعادة بث. أما في حالة الطمع فلا بد من السعي والاجتهاد، ولا بد من إعمال الخيال في مجال التزلف والنفاق والرياء وإظهار آيات التبعية والولاء، مع ما يتضمنه ذلك من احتمالات الغلوّ في المديح والتطبيل والتدجيل الذي قد يبلغ حد البوح الرومانسي (مثلما فعلت ممثلات مصريات في 2013 و2014) بالحب العذري للدكتاتور. وقد استثمر الكاتب المصري الفرنكوفوني الراحل ألبير قصيري أبعاد السخف والإسفاف والعبثية في هذه الظاهرة الانتهازية الملازمة لأنظمة الاستبداد استثمارا فنيا ماكرا في روايته الفلسفية «العنف والسخرية» التي أذكر أن أمجد ناصر رحمه الله قد كتب عنها في «القدس العربي» في التسعينيات والتي لا تزال نسيج وحدها بما تفردت به من براعة التخييل «التخريبي» الهازئ بسلطة المتسلّط ومن طرافة التصوير الكاريكاتوري العابث بعبثية الاستبداد، حيث أنه ليس لهذه الرواية المصرية الساخرة ما يشبهها حتى في الجنس المعروف في الأدب الأمريكي اللاتيني بـ«رواية الدكتاتور». هذا هو الوضع العام الذي لا يكاد يوجد له استثناء: طالما أن الأنظمة قائمة على البأس والقهر والخوف، فإن الشعوب تقابلها بالمسايرة والمهادنة والتظاهر بالقبول والتأييد. لكن ما أن تتاح للشعوب فرصة النجاة حتى تفرّ إلى النجاة وتختار الحرية والعدالة. هذا ما يقرّه المنطق وهذا ما أثبته التاريخ الحديث والمعاصر مرارا وتكرارا.
 
إن الأنظمة قائمة على البأس والقهر والخوف، فإن الشعوب تقابلها بالمسايرة والمهادنة والتظاهر بالقبول والتأييد. لكن ما أن تتاح للشعوب فرصة النجاة حتى تفرّ إلى النجاة وتختار الحرية والعدالة
 
المفترض أن هذه بديهيات. إلا أن غرائب التشكيك في البديهيات والكفر بالبيّنات قد تكاثرت منذ بضع سنين. لسببين. أوّلهما الردّة ضد الثورات الشعبية في البلاد العربية، بتحريض وتمويل من الطغاة العرب الخائفين على كراسيهم وثرواتهم وبدعم من القوى الإقليمية والدولية التي لا مصلحة لها في أن تتجذر الديمقراطيات وتزدهر الحريات عندنا. أما السبب الثاني فهو أن ما أفرزته العولمة من خلخلة في البنى الاقتصادية وهشاشة في الأوضاع الاجتماعية قد أدى إلى أن تظهر في بعض البلدان الغربية أنظمة حكم شعبوية وفاشية سرعان ما تبين أنها حليف موضوعي للدكتاتوريات العريقة. كل ذلك جعل البديهيات تصير محل جدال، بل إنها صارت موضع نكران وجحود بالنسبة لمن يعتبرون، عندنا نحن العرب والمسلمين، أن الثورات الشعبية مجرد مؤامرة أجنبية ولمن يعتبرون، عند سوانا، أن الليبرالية السياسية مكيدة دبرها الاتحاد الأوروبي لتكون منفذا للهمج من المهاجرين واللاجئين المصممين على تلويث روح الأمة ذات الجذور المسيحية والميراث الإغريقي-الروماني. ومما زاد في البلبلة أن الدكتاتوريات العريقة، خصوصا في روسيا والصين، قد انتقلت في السنوات الأخيرة من الدفاع إلى الهجوم فصارت تروج للاستبداد باعتباره النموذج الأمثل للحكم وتنشر الأباطيل على شبكات التواصل بغرض التأثير في نتائج الانتخابات في الديمقراطيات الغربية.
إلا أن الأزمة الناجمة عن الجائحة قد أتت بالدليل على أن الديمقراطيات الليبرالية، على شدة نقائصها وأخطائها وعلى كثرة مداولاتها وبطء قراراتها، هي أفضل في التصدي للمشكلات ومخاطبة الجمهور وتجسيم الإرادة الوطنية وتحقيق الصالح العام من أنظمة الاستبداد الفردي في روسيا والحزبي في الصين، أو أنظمة الحكم الشعبوي في أمريكا والبرازيل والمجر.
ومن أعجب المفارقات أن الحكم الاستبدادي في بكين قد أتى، رغما عنه، بأقوى دليل على أن الشعوب تفضل الحرية على الاستبداد. وإلا ففيم استماتة الشعب الصيني في هونغ كونغ في التشبث بآخر ما تبقى من الحريات في وجه هجمة الردع والترهيب التي تشنها بكين بذريعة قانون الأمن؟
وإذا كانت دكتاتورية الحزب الشيوعي محبّبة إلى هذا الحد، فلماذا يعض الشعب الصيني في تايوان على نظامه الديمقراطي بالنواجذ ويرفض رفضا قاطعا العودة إلى جنة الوطن الأم؟
هكذا فضحت صين الحرية في الجزيرتين صين الاستبداد في القارة. فتخيل لو أن شعب المليار والنصف أتيحت له هو أيضا، مثل شقيقيه، فرصة تذوق تلك الثمرة التي يخافها نظام بكين.
 
كاتب تونسي